حالة الأنومي، وهي موضوعنا هنا عندما تَحدثُ، وهي حادثة في حالتنا العربية اليوم، هي حالة نفس - اجتماعية تعبر عن حالة لا معيارية، مهمتها تفتيت النسق العام بشكل منظم - فوضى منظمة - حالة تضيع فيها القواعد المنظمة للسلوك الاجتماعي والتفكير السياسي، وتنحل فيها في الوقت ذاته المعايير العامة التي تحكم المجتمع وتتحكم في حركة مفاصله.
وإذا أردنا الدقة في التعريف، أيها الإخوة، يمكن القول إن «الأنومي» أو اللامعيارية هي «حالة تحمل بداخلها مضموناً معاكساً تماماً في المعنى لمفهوم التضامن الاجتماعي. فإذا كان التضامن الاجتماعي يعبر عن حالة من التكامل الإيديولوجي الجمعي، فإن اللا معيارية أو الأنومي تعبر عن حالة من حالات التخبط العام، وانعدام الأمن، وفقدان المعايير، الأمر الذي تصبح معه التمثلات الجمعية العامة لقواعد السلوك العام في المجتمع بما فيه السلوك السياس ، تمثلات منهارة تماماً». وقد ساعد على انتشارهذه الحالة، حالة الأنومي في حالتنا العربية هذه، ساعد على انتشارها وجود مثقفين هامشيين وإمبريقيين يجعلون من نتائج التطور الاجتماعي لشعوب أخرى مغاير يجعلون منها مبادئ تحليلية لفهم مجتمعاتهم هم. وقد تصادف ذلك في حالتنا مع وجود قيادة دينية انتهازية تقتات كهنوتيّاً على فُتات موائد السلطة، فهي - أي هذه القيادات - بدل أن تقف في وجه الانحلال والاحتلال وتوقف تداعياته المؤذية في تفكك المعايير العامة، أخذت تصلي ركعتين ترويجاً لهذا التفكك والانحلال والاحتلال كاحتفال بالهزيمة. ولاكتمال الخطة ونجاح تطبيقاتها أنشئت بعد ذلك قنوات تلفزيونية فضائية في مطلع التسعينات متزامنة مع بداية تطبيق حالة الأنومي ومع اتفاقيات أوسلو ومدريد. كان هدفها، ولايزال، هو زيادة في التخبط والانحلال من أجل تفكيك الأوضاع العربية والجيوش العربية بشكل يحفظ وجود «إسرائيل» وتفوقها، ويؤدي بالتالي - كخريف عربي منظم إلى حالة فوضى عارمة - تؤدي بدورها بالأوضاع العربية إلى مزيدٍ من الاستباحة والاختراق. كما هو حادث في حالتنا العربية الآن وحالة خريفنا العربي اليوم. ولعل أهم الظواهرالاجتماعية الحالية لحالة الأنومي بحسب تحليل دركهام، وبحسب النتائج المرئية لنا في المكان، هي ظواهر الانتحار الديني الفردي والجماعي كما تمارسه الجماعات التكفيرية في حالتنا المعاصرة. فبسبب ضياع المعايير وسيادة حالة من حالات اللا معيارية «Anomie» أخذ الأفراد عندنا بالتململ والقنوط واليأس وتجمعوا في جماعات انتحارية «Anomie Suicide» تنظر إلى الخلف. مستقبلها في الخلف في الآخرة، ولا ترى مستقبلاً أمامها في الدنيا نتيجة لضياع المعايير العامة التي تُحيي الآمال في النفوس.
وهم في هذا يفضلون الانتحار نتيجة سيادة حالة الأنومي كما عبر عنها عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم، أي يفضلون الموت في حالتنا على الحياة . فالموت كشهادة في سبيل الله هو المستقبل عندهم؛ لأنهم ينظرون إلى المستقبل كما يتصورونه هم، ينظرون إليه من الخلف من الآخرة، ولا ينظرون إليه من الأمام من الدنيا. ولعل ذلك يحدث عندهم بسب نظرتهم العامة للأمور، فهم في وعيهم المحدود ينظرون إلى الماضي فقط كمعيار، أما الحاضر عندهم فإنه حاضر قد ضاعت معاييره، إذ يصبح الموت عندهم في مثل هذه الحالة اللامعيارية هو الباني للمستقبل؛ لأن الموت أو الانتحار يقربهم، كخلاص سريع، يقربهم إلى الجنة بكل ما فيها من شهوات وملذات وخيرات ومغريات، يقربهم الموت إلى حالة ربانية معيارية. فيفضلون الموت سريعاً من أجلها بكل ثقة وبكل تلقائية وشجاعة، يفضلون الموت على الحياة بشكل غير واع تماماً لذاته، بسبب ضياع المعايير وسيطرة حالة «الأنومي» حيث المساواة المفقودة لديهم في هذه الدنيا في واقع معاصر ضاعت معاييره. والموعودة لهم كخلاص نهائي في واقع آخر مضمونة لهم معاييره.
وعندما يَموتُ الفرد الواحد منهم مستشهداً في سبيل الله كما يَعتقد، وهو صادق مع نفسه في اعتقاده؛ لأن مثل هؤلاء الناس دائماً وأبداً ما يكونون صادقين مع أنفسهم حتى لوكان عملهم عملاً خاطئاً أوعملاً شنيعاً؛ لأن الخبرة التحليلية لديهم دائماً ما تتطابق مع نمط إيديولوجي لها بطريقة ذاتية تلقائية يقاس فيها غير المألوف عندهم على المألوف لديهم إذ يُتخذ القرار عندهم بسرعة وحسم وبدون تردد، لديك مألوف جاهز فإذا صادفك غير مألوف فقسه على ما عندك من مألوف وينتهي الأمر عند هذا الحد من دون جهدٍ مضنٍ أو معاناة تذكر. الأمر الذي يعجل بالأمور ويخفف من الانشقاقات. نقول بعد هذا الاستطراد المطلوب لتوضيح المقصود، نقول إن الفرد الواحد منهم عندما يموت يَمَوِتُ معه ظلماً مجموعة من الأفراد. و القول ظلماً هو من وحي تصوراتنا نحن عن المنتحر. أما المنتحر المستشهد نفسه فلا يعتقد ذلك ولا يرى ذلك. المنتحر أو المستشهد يرى العكس، يرى ويعتقد أنه حينما يفجر نفسه وتموت معه مجموعة من الناس الأبرياء، فإنه قد قدم خدمة دينية يثاب عليها، قدم خيراً لمن مات معه؛ لأنه أوصل سريعاً من مات معه، الى المستقبل الموعود له بحسب اعتقاد المنتحر، وإن كان الوصول إلى المستقبل الموعود هو من الخلف من الآخرة وليس من الأمام من الدنيا حيث يصدق المثل القائل «هات من الآخر»، فيخسر المجتمع أفضل أعضائه من المبادرين والمضحين والصادقين مع أنفسهم حتى ولو كانوا صادقين مع أنفسهم في خطأ أو في الخطأ، إذ إن العبرة هنا في الصدق، وإلا فالخطأ هنا كعملية «process» هو كالصواب تماماً كعملية يبقى في حدوثه حقيقة موضوعية. والحقيقة الموضوعية الباقية أو المتبقية لنا هنا كنييجة، والتي بحسب علمي لم يذكرها أو يشير إليها أو يتعرض لها أحد في واقعنا السياسي العربي الراهن على رغم وضوحها. ولا أعلم لماذا لم تتم الإشارة إليها؟؟!!، الحقيقة الغافلة أو المتغافل عنها هي أن الخطأ انحدر إليهم أي انحدر إلى المنتحرين والمفجرين، انحدر إليهم ونما في عقولهم وترعرع في أنفسهم وتمركز في وعيهم من خلال ضياع المعايير الاجتماعية العامة. وهذه المعايير الضائعة نحن الذين أضعناها أولاً كسلطات رسمية وشعبية وليس هم. وبالتالي فمن أضاع المعايير أولاً هو الذي ارتكب الخطأ أولاً وهيأ له ثانياً.
لذلك، كله فإن القضاء على الإرهاب لا يتم عبر قوالب رسمية جاهزة تتبع أطر شعوبية ومذهبية وفئوية طائفية، مما يطور الصراع ويفاقمه. حيث يُعَمّمُ الإرهاب في مثل هذه الحالة ضمن قنوات رسمية وحضائن اجتماعية تخلط أوراق الصراع بشكل تضيع فيه علينا الطاسة.
الإرهاب يُحلُّ من خلال معالجة حضائنه الثقافية وأسبابه النفسية والاجتماعية والحضارية، يُحلُّ بتطبيق معقول للعدالة الاجتماعية وبالحفاظ على المعايير العامة للمجتمع عن طريق حفظ الكرامات بداخله وعدم التفريط بها من أجل مصلحة سياسية عابرة غالباً ما تقود إلى ورطة دائمة وهي ورطة الاحتماء بالأجنبي والارتهان إليه والوقوع بين أحضانه. فالتفريط بالمعايير الاجتماعية والقومية السياسية العامة. هو في رأيي أهم الأسباب، أهم أسباب حالة الأنومي التي نحن فيها حيث تؤدي هذه الحالة بالأفرد في المجتمع وخاصة في حالتنا العربية كحالة ثقافية قيمية، تؤدي بهم إلى حالة تململ واغتراب «Alienation» وعندما تحدث حالة الاغتراب في المجتمع تضعف حالة الامتثال الاجتماعي عند الأفراد لما تبقى من قواعد عامة وهي هنا قواعد الضبط الاجتماعي. فيفقد الأفراد القدرة على توقع سلوك بعضهم بعضاً داخل حركة المجتمع، وتزيد بينهم ومن حولهم على إثر كل ذلك، تزيد حالات الاغتراب والتململ والتبرم والعزلة النفسية والاجتماعية من جديد، ما يؤدي نفسياً وجتماعياً وثقافياً إلى مزيد من عمليات النحر والانتحار. لذلك فإن تطبيقاً معقولاً للعدالة الاجتماعية في الداخل إلى جانب الحفاظ على المال العام، وعلى مقدرات الأمة المعنوية والمادية ووقف الحداثة الزائفة ومظاهر الترف الفقير التي تقودنا نفسياً واجتماعيا من حيث لا ندري، تقودنا من خلال عمليات التقليد والمحاكاة «Imitation» إلى انفصال الفرد عن ثقافة مجتمعه وأمته وتحوله بعد حالة من الاستلاب إلى مواطن عالمي منسلخ عن ثقافة أمته ومجتمعه. نقول إن تطبيقاً من هذا النوع ربما يكون هو أساس الحل.
والعدالة الاجتماعية أيها الإخوة لا تعني هنا العدالة المادية في توفير بطاقة التموين، وإنما إلى جانب ذلك يتطلب الأمر حفظ الكرامة الشخصية والعامة في المجتمع من خلال حفظ المعايير الاجتماعية للمجتمع وتطويرها مع ما يستجد ويُستحدث من سلوك حضاري مناسب عن طريق توفير بطاقة الرأي والانتخاب والمشاركة، وليس فقط توفير بطاقة التموين.
إقرأ أيضا لـ "يوسف بن خليفة الكواري"العدد 4867 - الأحد 03 يناير 2016م الموافق 23 ربيع الاول 1437هـ