بالضبط كما توقع نتائجها عالم الاجتماع الفرنسي دركهايم في نظريته بشأن «الانتحار الأنومي» والتي يبدو على نتائجها في حالتنا كنظرية اجتماعية أنها نتائج ليست بذات علاقة مباشرة بأسباب الفقر وشروط الحرمان، على عكس ما يتصوره الكثيرون منا. والدليل على ذلك، الدليل على أن ما يحدث في حالتنا ليس بذي علاقة بحالات الفقر والحرمان هو ثراء بن لادن الفاحش وهو أول من أسس لهذه الحالات، حالات النحر والانتحار، لكن قبل الدخول في الموضوع لابد من توضيح لما قصده دركهايم من حالة الأنومي.
يقصد دركهايم من حالة الأنومي أو اللامعيارية أنه في حالة ثبات المجتمع وهو ثبات نسبي في العادة تكون مستويات الطموح عند الأفراد مستويات محدودة، وهم، أي الأفراد، يعرفون هنا إمكانية تحقيق هذه الطموحات، أما في حالة الاضطرابات كتلك التي تثيرها الفوضى المنظمة في حالتنا والتي من نتائجها فقدان التضامن الاجتماعي وقلة سيطرة الضمير الجمعي، فإن مستويات الطموح عند الأفراد في مثل هذه الحالة تتسم بعدم التحديد، وبالتالي بروز هوة واسعة بين طموحات الأفراد والجماعات، وبين إمكانية تحقيقها ما يؤدي إلى فقدان المعايير العامة المرتبطة أساساً بنظام الضبط الاجتماعي داخل النظام الديني في النسق الإيديولوجي، إذ تتوافر قابلية للانتحار بحسب رأي دركهايم نتيجة نقص في حالة التماسك الاجتماعي المرتبط سلبيّاً من جهة بظاهرة الانتحار، والمرتبط إيجابيّاً من جهة ثانية بالتضامن والتعاضد الذي فتتته وفككته الفوضى المنظمة في حالتنا العربية. وسنشرح كل ذلك بالتفصيل بعد قليل. هذا كله في جانب.
وفي جانب آخر أيضاً. فإن هذه الحالات - حالات النحر والانتحار - ليست بسبب الاستبداد السياسي الداخلي وفقدان الحريات الديمقراطية في حالتنا العربية كما يظن بعضنا الآخر. فعلى رغم نبذنا وإدانتنا للاستبداد السياسي كمرحلة معيبة، فإنه كمرحلة من مراحل التطور التي عادة ما تمر بها كل الشعوب. فإن ما حققه عبدالناصر في حالتنا العربية من إنجازات مادية ومعنوية تبقى ملفتة للنظر في هذا الصدد بمقارنتها بما لحق من تطورات بعدها.
وعليه، وباستبعاد هذين الجانبين جانب الحرمان والفقر وجانب الاستبداد ولأن ما نمر به اليوم هو شيء غريب مختلف كل الاختلاف عما مررنا به من سياقات، فإن هناك شكًّا أيها الإخوة – وهنا نكون قد دخلنا في صلب الموضوع - هناك شك في أن ما نعيشه اليوم من حالات نحر وانتحار هو على ما يبدو منه كمخطط هو إحدى النتائج غير المباشرة لحالة الأنومي «Anomie» المقترن بالتفكك الاجتماعي المرتبط بظواهر الانتحار الديني. كما وصفها عالم الاجتماع الفرنسي دركهايم والتي نشأت عندنا كحالة وكمخطط بعد زيارة السادات للقدس، إذ عمل وزير الخارجية الأميركي كيسنجر لمعرفته بنظرية دركهايم، عمل على تطبيق هذه النظرية على حالتنا في مطلع السبعينات من القرن الماضي وتحديداً بعد حرب (أكتوبر/ تشرين الأول 1973م)، مستغلاً في ذلك كتكنيك، ظرف النشوة التي أحدثتها حرب أكتوبر بين الطريفين آنذاك، وهي نشوة انتصار (بين بين) بين العبور وبين الاختراق، بين عبور القناة وبين ثغرة الدفرسوار. والتي اعتبرها كيسنجر مناسبة جيدة لتفتيت الحدود النفسية بين العرب والصهاينة بشكلٍ يَصُبُّ في النهاية لمصلحة إسرائيل.
فبعد زيارة السادات للقدس في (نوفمبر/ تشرين الثاني 1977م) جاءت اتفاقية كامب ديفيد في (سبتمبر/ أيلول 1978). إذ تبعتها فيما بعد اتفاقيات أوسلو ومدريد المذلة. بعدها، بعد ذهاب كيسنجر وبعد أن مرت المنطقة بجملة من الأحداث والوقائع كان أبرزها اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان في (مارس/ آذار 1978) وما رافقه من سكوتٍ مطبق خيم على الشارع العربي، وتفجر الثورة الإيرانية فيما بعد في (يناير/ كانون الثاني 1979)، وما ارتبط بهذه الثورة وتبعها كثورة اجتماعية ذات تاريخ اجتماعي سياسي معين، وما تفاعل معها من نزوات شعوبية تمثلت في دعاوى تصدير الثورة كنشوة بانتصارها وكرد فعل تاريخي قومي أيضاً على ما يبدو منه على الفتوحات الإسلامية التي قام بها العرب، بدليل أن التشيع موجود في كلِ مكان، موجود على حدود إيران الشرقية مع أفغانستان كما هو موجود مع حدودها الغربية مع العراق.
بدأت الحرب الإيرانية العراقية في (سبتمبر/ أيلول 1980) وببدء هذه الحرب تغيرت طبيعة الصراع في حالتنا وتحول من صراع سياسي قومي بين العرب والصهيونية إلى صراع اجتماعي مذهبي طائفي بين العرب وغير العرب ضمن حدود الدائرة الدينية الإسلامية. عندها حدث في حالتنا العربية نوع من الانقطاع الأبستومولوجي المعرفي بين الظواهر، وهو انقطاع لانزال نعيش بداخله، تبعه تغير في السياق التاريخي التحليلي العام الذي يربط بين الظواهر كنسق شامل وكمعنىً عام. وهو أي هذا السياق التحليلي بمثابة خيط منطقي رفيع يربط بين جميع مختلف الظواهر والمظاهر، إذ بدون التقاطه يستحيل التحليل الموضوعي للتاريخ والمجتمع.
بعدها أيضاً وبعد تفاقم الأوضاع وما حدث من أفعال وردود أفعال، أحدها اجتياح صدام للكويت. واصلت كوندوليزا رايس، واصلت لتكمل المشوار في محاولة منها لتكملة ما بدأ به كيسنجر حيث دعته رايس بالفوضى المنظمة. والمقصود بالفوضى المنظمة هي الفوضى التي تبدو وكأنها فوضى جلبتها الصدفة العمياء فقط غير معروف قوانينها، غير أنها في واقع الأمر فوضى منظمة جلبها مخطط مبصر خبيث ذو عينين، والعينين في رأسٍ واحد في مخطط واحد، فوضى تمثل بالنسبة لمن خططها واقترحها، ضرورة معروفة قوانينها لديه وليس مجرد فوضى أو صدفة فقط غير معروفة قوانينها، وهي قوانين قد صيغت لصالح الآخر، وهو إسرائيل في مثل هذه الحالة؛ لأن الاقتتال والتدمير حينما يحدث بيننا في ساحتنا العربية تكون إسرائيل هي أهم المستفيدين.
إقرأ أيضا لـ "يوسف بن خليفة الكواري"العدد 4865 - الجمعة 01 يناير 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1437هـ
احسنت
موضوع جميل يربط بمجموعة احداث تحولية