هكذا، مرّت سنة 2015م تطوي الأيام طيّا، تتالت فيها أحداث إرهابية هزّت الأرض مشرقاً ومغرباً، من وطن إلى آخر، وامتدّت خلالها رقعة التفكير الإرهابيّ جغرافيّا وبشريّا.
هذا المعطى المؤلم يفرض على العالم عمومًا، وعلى الأمّة الإسلاميّة خصوصًا تحديات جساماً؛ ذلك أنّنا اليوم، وفي هذا الزمن - زمن كراهيّة البشر والحجر- أشدّ حاجة إلى استعادة ثقافة التسامح والتراحم والعيش المشترك ونشرها وترسيخها.
نعم، نحن في حاجة ماسّة إلى ثقافة عاش بها الصحابة (رضوان الله عليهم)، والسّلف الصالح... ثقافة دعا إليها زمرة العلماء والمفكرين العرب المسلمين قديمًا، ولاسيما الذين عاشوا خلال القرن العشرين، والذين اتخذتهم في هذا الركن أعلامًا للتسامح والسلام على امتداد أشهر من هذه السنة، وذلك من أجل كسب معركة المستقبل، مستقبل شبابنا، المستهدف من دعاة الكراهية، من خلال فتاوى وخطب تحريضيّة ضدّ الآخر المختلف عنه دينيًّا أو عرقيًّا أو مذهبيًّا.
فتاوى وخطب تفيض بها مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية التي تبثّ من هنا وهناك من دون حسيب أو رقيب، حتّى غدت بيئة خصبة تزرع في شبابنا الكراهيّة واللاتسامح.
حقًّا، لقد كانت تحدوني مشاعر متضادّة، وأنا أجول بين سِيَر هؤلاء العظماء، فلا أدري أأفتخر بمواقفهم؟ أم أبكي حزنًا على ما وصلنا إليه في عصر التقدم العلمي والانفجار المعرفي؟ عصر القرية الكونية، والمواطنة العالمية، والمصير البشري المشترك؟
نعم، لقد كان علماؤنا الأجلاء متسامحين، وكذلك مجتمعاتنا، فأين نحن اليوم من ذلك الزمن، زمن التسامح والمحبة والتعايش؟! نعم، كانت مجتمعاتنا، في الماضي، أكثر تسامحاً - دينيّاً ومذهبيّاً - فما الذي حلّ ببعض مكوّنات هذه المجتمعات اليوم ولاسيما الشباب منها حتّى صارت أكثر تزمّتاً وتشدداً وكراهية؟!
إنّ التفكير الإرهابي المتشدد ينشأ أوّل ما ينشأ في العقول ثم ما يلبث، كلما وجد البيئة مناسبة، أن يستقرّ في النفوس، ويتحوّل تدريجيّا إلى سلوكيّات عنيفة. لذلك، ومن أجل كسب معركة المستقبل، علينا مواصلة الصراع ضدّ خطاب الكراهية بتفكيكه وبيان حدوده ووجوه الخلل فيه من جهة، وبزرع ثقافة التسامح في المجتمع وخاصة بين أبنائنا الطلاب في المراحل التعليمية المبكرة، حتى إذا ما نشأوا على ثقافة المواطنة والتسامح والعيش المشترك وحب الوطن، ما عادت تؤثر فيهم خطابات الكراهية.
ولا يتحقق ذلك إلاّ بتكامل أدوار البيت والمدرسة والجامع والإعلام والخطاب السياسي والخطاب التشريعي، لعلّنا بذلك نحوّل «أفضل المبادئ» التي يتوافر عليها ديننا الحنيف وتراثنا العربي الأصيل إلى حقيقة على أرض الواقع حتّى لا تبقى «معلقة في الفضاء المجتمعيّ، يحثّ عليها المفكرون، لكن دون جدوى» كما ألمع إليها المفكر محمد جابر الأنصاري، ذات مقال منذ عقدين، بعنوان: «أفضل المبادئ وأسوأ الأوضاع» إذ أكّد أنّ التسامح ليس فطرة يولد بها الإنسان، بل ممارسة عمليّة يُربّى عليها الطفل في البيت والمدرسة والجامع والمجتمع.
إننا اليوم، ونحن نودّع العام 2015، بكلّ ما حمله معه من مآس، على المسلمين خصوصًا وعلى العالم عمومًا، جرّاء هذه العمليّات الإرهابية، لفي أمسّ الحاجة إلى تبنّي «ميثاق ثقافيّ عربيّ مشترك» يتخذ ثقافة السلام منهجا ونبراسا، ويؤكد الدور التنويري للثقافة عامة، وألا نكتفي بمحاولات ومبادرات من هنا وهناك، وإنما وجب التنسيق بين هذه الجهود العربيّة على مستوى اللجان العربية المشتركة الساهرة على قطاعات ذات صلة ببناء الفكر وصناعة الاتجاهات الفكرية والمذهبية مثل قطاع التربية والتعليم والثقافة والإعلام، وخاصة القطاع المشرف على الخطاب الدينيّ وذلك من أجل تسليح الأجيال الناشئة بقيم التسامح والسلام، بدل تركها عرضة لجماعات التطرف والفكر المتشدد.
لئن لم تترك لي الأحداث الإرهابية البشعة، التي تبنّتها بعض الجماعات الدينية المتطرفة، أملا في النظر إلى العام 2015م بعين المتفائل، فإنّ اقتران ذكرى مولد نبي الرحمة محمد (ص) بذكرى أعياد ميلاد المسيح رسول المحبّة (ع) أواخر شهر (ديسمبر/ كانون الأول) من هذا العام، يمثّل رسالة لأولي الألباب؛ حتّى يتذكروا أنّ الأديان والمذاهب تلتقي من أجل رسالة واحدة هي زرع المحبة والرحمة بين الناس، وأنّ الاختلاف حقيقة وغاية من أجلها خلق الله الناس ولا يمكن أن نكون صورة مستنسخة لبعضنا بعضاً في الفكر والعقيدة والسلوك.
إنّ التقرب إلى الله في منطق الدين يتحقّق بخدمة الخلق، وهو ما سعت إليه كل الديانات السماوية التي ظلّت واحدة في خدمة هدف واحد هو الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن وخدمة الانسان والسلام.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4861 - الإثنين 28 ديسمبر 2015م الموافق 17 ربيع الاول 1437هـ
أين المثقفون من هذه الدعوة؟؟
إننا اليوم، ونحن نودّع العام 2015، بكلّ ما حمله معه من مآس، على المسلمين خصوصًا وعلى العالم عمومًا، جرّاء هذه العمليّات الإرهابية، لفي أمسّ الحاجة إلى تبنّي «ميثاق ثقافيّ عربيّ مشترك» يتخذ ثقافة السلام منهجا ونبراسا، ويؤكد الدور التنويري للثقافة عامة،