في كثير من الأحيان، من بينها أنك مارست الرحمة بادّعاء العمى والصمم أحياناً. ستنجيك من الصلَف والقسوة. قصص تحتفظ بها الذاكرة مَوّاجة ورجْراجة وعاصفة في الوقت نفسه؛ ما يصعّب الاغتراف منها إلا عندما يخطر على بالك ما يشبه الموقف ويُذكِّرك به، في تقلُّب الزمن، وحركة البشر.
أنا ابن بائع فاكهة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، كان شريكاً لبحريني من أصل حساوي، يقع مقر عمله في سوق الفاكهة والخضراوات، ضمن فرْشة من مجموع فرشات، مقابل بناية المطيري التي تقع في الجانب الشرقي من سوق المنامة القديمة؛ حيث مقر سوق الأربعاء، وبالقرب من فندق عذاري حاليّاً.
في قصص الطفولة الكثير من النظر والتجلِّي. الذاكرة تُنجيك وتنقذك فيصاب أصحاب السوق بحالة من اليقظة والاستنفار غير الطبيعي، حين تدخل امرأة في الخمسينات من عمرها كما أتخيل سحنتها، من إحدى مناطق البحرين إلى السوق وهي كثيرة التلفُّت. المرأة فيما عرفت بعد ذلك تعول أطفالاً ومضطربة العقل والحواس. ذلك الاستنفار للحيلولة دون أن تمتد يدها لتفاحتين أو حبَّات من الطماطم، وذلك دأبها، وينالها من الإهانة والقسوة في الألفاظ وحتى الضرب الشيء الكثير. تتكرر هذه المشاهد كل يوم جمعة، وبحساسية الطفل كانت تترك أثراً موجعاً في النفس، وألماً يظل يتملّكني حتى الجمعة التي تلي.
قُدِّر لها في يوم جمعة أن تأتي في وقت مبكِّر على غير عادتها، ذلك التوقيت عادة ما يترك الكبار «فرشاتهم» للأصغر سنّاً من أبناء أو إخوة، لتناول وجبة الإفطار في مطعم محاذٍ للسوق. بغياب الكبار يكون الاستنفار أقل حدَّة وانتباهاً. عرّجت على «الفرْشة» الأولى وفي غفلة حقيقية من الموكول بها، فأخذت بسرعة خاطفة ما أمكنها أخذه. كنت أراقب بعين جانبية إن صح التعبير، ولم أنبّه صاحب «الفرشة»، حين جاء دور «فرشة» أبي دخلتُ في حال من الغفلة المصطنعة، كأنني لا أرى... كأنني أُصبْت بالصَمم كي تطمئن ولا يدخلها روْع، فوجدتْ في ذلك فرصة لأخذ ما استطاعت يدها أن تطوله. عيني على أطفال تعول، وعيني على اضطراب عقل وحواس، وفقر كان هو القاعدة في تلك الفترة المتقدمة من التاريخ.
في اللجوء إلى الذاكرة ما يُمكن أن يُشار إليه هنا، وفي الفترة الزمنية نفسها من بدايات سبعينات القرن الماضي، يوكل الأبُ الابنَ بحمل «سِبَّاقين»، وهو الوعاء الذي يتم صنعه من خوص النخل، مليئين بالبرتقال من صنف «أبوصرَّة»، لبيعهما بالقرب من فندق الجندول حاليّاً، وهو الشارع المؤدي إلى الهيئة البلدية المركزية في موقعها الحالي، كون الشارع يضج بالحركة، وخصوصاً في الطريق المؤدية إلى «الفرْضة»، منفذ السفر الأكثر استعمالاً. سبقني إلى المكان رجل في الثلاثينات وكنت وقتها في العاشرة، وكان الناس متحلِّقين حوله ويبيع بصورة سريعة، كان وقتها «درزن» البرتقال من النوع الذي يبيعه لا يتجاوز 300 فلس، فيما النوع الذي أؤتمنت عليه يصل إلى ما يقرب من 400 و 500 فلس، ولأن الوعي بأهمية الربح في التجارة لم يكن حاضراً، عليك أن تبيع بأي سعر، وبشكل سريع، سيفرح ذلك والدك، فصوَّتت على البضاعة بسعر يقارب سعر المنافس، فتحوَّل الحشر منه إليَّ. نفدت البضاعة في لمح البصر، بعد البيع بخسارة فادحة، وعدت ربما بدينار و 200 فلس، فرحاً جذلاً، وكان من المتوقع أن أعود بدينارين على أقل تقدير، ولو عدت بدينارين و 400 فلس فسأكون نبيهاً يشدَّ بي الظهر مستقبلاً، وممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في هذا المجال. أتذكَّر بعد نوبة غضب، أنني تلقيت 12 بين صفعة ولكمة، بحجم المبلغ الذي فرحت به، بعدد المبلغ الذي خسره والدي بذلك الوعي البسيط: أن تبيع أسرع، ولا تهمُّ الخسارة بعد ذلك! في الأمر أيضاً شيء من الرحمة وادَّعاء العمى والصَّمم أحياناً، من حيث أنني كأن لم أسمع السعر الذي حدَّده لي، وادَّعيت العمى، بما ستؤول إليه الأمور، بذلك الفهم البسيط، لبشر يتكالبون على فاكهة نصف جيدة، بأسعار تثقل الكاهل، مقارنة بإمكانات الناس في تلك الفترة المبكرة من تاريخ البلاد. لا يهم كم من علقة سيتحمَّل بدنك بذلك التصرف، المهم أن محدودي الدخْل تمكنوا من شراء برتقال «أبوصرَّة»، وبسخاء بالغ!
لا إثْم في ادّعاء العمى والصَّمم أحياناً، استحضاراً لرحمة ورفْق يحتاجهما البشر والعالم؛ ولكن ليس في عالم التجارة الذي نعرف، حيث الرحمة نادرة، ولا عمى في هذا المجال!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4860 - الأحد 27 ديسمبر 2015م الموافق 16 ربيع الاول 1437هـ
ياريت بس !
اتمنى ان لا ارى ولا اسمع ولا اتكلم وهذا الشيئ افعله بعض الاحيان في البيت وخارج ابيت لكن الواقع المر يتطلب اليقظه
من يومه البرتقال غالي
انا افكر بس احين غالي ،،، برتقال ممتاز
لإ تتمارضوا
جوف الي يتمارضون أو يتمسكنون شيصيبهم من أمراض حتي الناس يخافون من التعامل معاهم