هل ينشغل عامّة المسلمين اليوم بالتفريق بين أبناء هذه الأمّة أم بالتقريب؟ وهل أنّ النخبة المثقفة وأهل العلم يسعون إلى جسر الفجوة بين المختلفين مذهبياً أم تراهم يعملون، عن قصد أو دون قصد، على مزيد التشتيت؟ وهل الجدل الذي يثار في وسائل الإعلام بين الحين والآخر حول الموضوع، يعدّ نموذجاً لتجليّات التفريق التي مازالت مترسّبة بين أصحاب المذاهب الإسلاميّة أو شكلاً من أشكال التقارب بينها؟
هذه وغيرها أسئلة يطرحها المتأمل في الواقع الإسلاميّ الراهن، ولاسيما أنّ الإرهاب قد اتخذ من هذا الاختلاف المذهبيّ ذريعة لبسط سلطانه على مناطق متفرقة من هذه الدول العربية والإسلامية وخاصّة في سورية والعراق. هذه التحديات وغيرها تردّنا إلى بعض المحاولات الجادة على المستوى الإسلامي لإيجاد أطر تقرب بين المختلفين مذهبياً ولعلّ تجربة التقارب بين المذاهب الإسلامية في أربعينات القرن الماضي لاتزال تشعّ بما سعت إلى تحقيقه من أهداف جليلة.
على رغم أجواء الإحباط واليأس التي كانت سائدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ حيث صار العالم العربي كلّه تقريباً يرزح تحت نير الاستعمار الغاشم، وظهر الغرب في أوج قوته، بعد انتصاره في الحرب، على رغم من ذلك انتعشت حركة التقريب بشكل لافت؛ فقد تناصرت جهود نخبة من العلماء من مصر وإيران وفلسطين وغيرها لتشكّل نواة أولى للتقريب بين المذاهب؛ إذْ التقى العلاّمة محمّد تقي القمي قادماً من إيران إلى مصر العام 1937م، بكبار شيوخ مصر آنذاك، ولاسيما الشيخين محمّد مصطفى المراغي شيخ الأزهر وعبد المجيد سليم الذي كان مفتياً، وتدارسوا فكرة التقريب وأولوياتها وأشكال العمل فيها، وانتهوا بعد سنوات وتحديداً سنة 1946م، إلى تأسيس دار التقريب بين المذاهب. وكان محمّد علي علوبة باشا أحد كبار المصلحين في مصر آنذاك أوّل رئيس لها. وكان من بين الأعضاء أيضاً الشيخ أحمد حسين مفتي وزارة الأوقاف في مصر، والشيخ محمود شلتوت الذي كان عضواً بهيئة كبار العلماء (وصار بدوره شيخاً للأزهر) والحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين وغيرهم كثير.
وكان من أهمّ أغراض دار التقريب السعي إلى «إزالة ما يكون من نزاع بين شعبين أو طائفتين من المسلمين والتوفيق بينهما»… و»عقد مؤتمرات إسلامية عامة تجمع زعماء الشعوب الإسلاميّة في الأمور الدينية والاجتماعية». ولا غرو أنّنا اليوم في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه الجهود لتحقيق هذه الأهداف على أرض الواقع.
ومن أهمّ آثار هذه الجماعة الدالّة على محاولاتهم لجعل فكرة التقريب حقيقة لا حلماً هو اعتماد تفسير للقرآن اجتمع عليه علماء السنة والشيعة هو تفسير «مجمع البيان لعلوم القرآن للطبرسيّ»، وقد أشرف على هذه العملية التي استغرقت عشرين عاماً ثلاثة من أكابر علماء الأزهر هم الشيوخ عبدالمجيد سليم ومحمود شلتوت ومحمد المدني. إضافة إلى إصدار مجلة باسم «رسالة الإسلام»، طيلة أربعة عشر عاماً، تناولت محاور عديدة أهمّها وأكثرها تواتراً: استنكار تفرّق المسلمين؛ حيث لا يكاد نصّ في المجلة يخلو من التعبير عن هذا المقصد، إضافة إلى الدفاع عن الحق في الاختلاف، فضلاً عن التركيز على الأصول المتفق عليها بين أهل السنة والشيعة ومن ثمّ السعي الدؤوب إلى التنبيه إلى مساحة المشترك بين الطرفين. وتنفي جماعة دار التقريب ما قد يفهم خطأ أنها تسعى إلى التوحيد بين المذاهب الإسلامية بل ترى في هذا الاختلاف الفقهي مفخرة للمسلمين، لأنه «دليل على خصوبة في التفكير، وسعة في الأفق، واستيفاء وحسن تقدير للمصالح التي ما أنزل الله شريعته إلاّ لكفالتها وصونها».
إنّ هذه الرؤية الثاقبة، والجهود الجبارة قد عرفت تراجعاً في نهاية القرن الماضي لتفسح المجال لدعاة التفريق إلى مزيد اللعب على وتر الاختلاف المذهبي وشحن الشباب بسموم الفتنة ما أدى إلى ما نحن عليه الآن. بل لم نكتفِ بالاقتتال الداخلي وإنما صارت عمليات التفجير تشمل حتى الأجانب الآمنين في بعض الأوطان العربية المسلمة، وفي أوطانهم أيضاً.
مثّلت دعوة التقريب في منتصف القرن الماضي إضاءة مهمة حققت الكثير، وحتى لا يذهب هذا الجهد هباء منثوراً، ومع تثميننا لجهود منظمة المؤتمر الإسلامي وجهود هيئات إسلامية أخرى في هذا المجال، يبقى العالم الإسلامي في حاجة إلى علماء ورجال فكر ورجال إعلام مخلصين يواصلون مسيرة التقريب حتى لا يتمادى دعاة التفريق في اللعب على وتر الاختلاف المذهبي لمزيد تأجيج الفتن داخل البلدان العربية والإسلامية.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4854 - الإثنين 21 ديسمبر 2015م الموافق 10 ربيع الاول 1437هـ
أسئلة في صميم الموضوع
هل ينشغل عامّة المسلمين اليوم بالتفريق بين أبناء هذه الأمّة أم بالتقريب؟ وهل أنّ النخبة المثقفة وأهل العلم يسعون إلى جسر الفجوة بين المختلفين مذهبياً أم تراهم يعملون، عن قصد أو دون قصد، على مزيد التشتيت؟
رفع التكفير
قرار ضروري ولا بد له من علماء بينهم وبين الساسة مسافة حتى يكون الرأي حرا غير مسيّس
بعد تبدل الحال ؛ ما هي الخطوة الأولى في التقريب؟ 2
لكن من المسئول عن ذلك؟ المسئول الوحيد عن ذلك، و القادر على رفع التكفير هم العلماء و الفقهاء و المراجع! و ليضع الكتاب و المفكرون و الصحفيون و الحكومات يدهم بعيداً عن ذلك، فهم سيخربون أكثر مما يصلحون من جهة ؛ و هم غير قادرون على إيصال الرسالة للشعوب من جهة أخرى ؛ لعدم سماع الشعوب لهم. لكن يبدو أنَّ العلماء و الفقهاء غير مسرورين بجدية التقريب، لذا فإنَّ رفع التكفير يسبب مشكلة لهم.
بعد تبدل الحال ؛ ما هي الخطوة الأولى في التقريب؟ 1
كانت الجهود المخلصة تتحرك في ظروف غير هذه الظروف ، و الأولويات اليوم غير أولويات الماضي.
أول الخطوات هو رفع التكفير الحاصل بين فرق الإسلام؛ لا سيما السنة و الشيعة. لم يعد مقبولاً السكوت على تكفير أي فريق لمخالفته تفسيرات و مفاهيم و روايات طرف آخر.
تجربة رائعة
مثّلت دعوة التقريب في منتصف القرن الماضي إضاءة مهمة حققت الكثير، وحتى لا يذهب هذا الجهد هباء منثوراً، ومع تثميننا لجهود منظمة المؤتمر الإسلامي وجهود هيئات إسلامية أخرى في هذا المجال،