وردتني مجموعة من الملاحظات والاستحسانات من الأصدقاء تعقيباً على ما كتبته الأسبوع الماضي بشأن «كتب النحس» وهو موضوع ينطوي على ظرافة وغرابة ظاهرة، وقد نصحتني زوجتي بالابتعاد عن بعض الكتب التي ذكرتها في المقال السالف، فيما فضّل بعض معارفي إرسال رسائل نصية على سبيل المزاح يؤكدون فيها أنهم سيكونون أكثر حذراً في اختيارهم للكتب التي سيقررون اقتناءها أو قراءتها.
أما البعض الآخر ممن يحبون التعامل الجدلي في كل شيء، فقد سألوا إن كان المقال يمثل رأيي في الموضوع أم لا ؟ بعبارة أخرى هل أنني مؤمن بأن بعض الكتب تجلب النحس؟ وأنا بطبعي لا أميل إلى الإجابات الحاسمة في مواضيع كهذه، لكن الحذر - في كل حال - خيار من يؤثرون السلامة.
ومهما يكن من أمر، فقد وجدتُ معلومات لها بعض الأهمية بشأن الموضوع ذاته نبهني إليها الصديق أحمد مجيد الحلي من العراق، وهو محقق ومفهرس معروف رَفَد المكتبة العربية والإسلامية بنتاج غزير، وقد أبدى سروره بالمقال مقترحاً التوسع فيه وإيراد شواهد أكثر قد تزيد الفكرة وضوحاً، وتعطي للموضوع شيئاً من الإحاطة والاستيعاب.
فقد أورد محمد الرضوي في كتابه (التحفة الرضوية): «حدثني بعض أساتذتي وكان قد درس شرح المنظومة للحكيم السبزواري (ت 1873م/ 1289هـ) قال: إن قراءتها تصدم الإنسان، وقد قرأتها وأُصبت ببلية وهذا من المجربات».
وحدثني غيره من الأفاضل، يضيف قائلاً: من المُجرَّبات أن قراءة المنظومة تجلب النكبة (المصيبة) لقارئها. وكأن الأمر مشهور عند أهل العلم، وإني شاهدتُ دارساً لها مبتلى بمرضٍ مزمن مع فقر وتشويش فكر!
وبعيداً عن تداعيات الفلسفة وما يقال عن آثارها الضارة على نفسية وعقل الإنسان وحواسه، فإن المشهور بين طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف، ولا أدري أَمِن الشؤم نعدّها أم من حُسن الطالع، أن من يقرأ كتاب (اللمعة الدمشقية) أو شرحها ينتهي به الأمر إلى الزواج! وهذا كما قيل لي من المجرّبات، وهو ما يفسر ربما ما عُرف به طلبة العلوم الدينية من ميل لتعدد الزوجات خصوصاً إذا ما علمنا أن كتاب (اللمعة) هو من مقررات المنهج الدراسي للطلاب!
واللمعة الدمشقية متن فقهي مختصر في فقه الإمامية، كتبه محمد بن مكي الجزيني العاملي (ت 1385م/ 786هـ) المعروف بـ «الشهيد الأول»، ووجه الغرابة هنا أنه كتبه في السجن في سبعة أيام قبل أن يُقتل بفتاوى الحقد إبان طوفان الكراهية الذي ضرب البلاد العربية وقتها، حاصداً أرواح المبدعين والعقول النيرة، وقد عكف على شرح هذا الكتاب والتعليق عليه جماعة من العلماء، وأبرز شروحه (الروضة البهية) لزين العابدين علي الجبعي العاملي (ت 965هـ) المعروف بـ «الشهيد الثاني».
ويلاحظ أحد أهم الدارسين لتراث أبي عمرو عثمان الجاحظ، عبدالسلام محمد هارون (ت 1998م) أن الجاحظ دأب في كل كتبه على إهدائها إلى أعيان وقته، ممن عرف التاريخ أسماءهم، ما خلا عملاً واحداً فقط هو كتاب (البرصان والعرجان والعميان والحولان) وعلّق: «وعسى الأيام أن يظهرن فيما بعد اسم من حمل الجاحظ على أن يقوم بصنع هذا الكتاب» ولا أظنها تفعل والسبب أتركه لفطنة القارئ.
وليس بعيداً عن النحس، فقد عكف علماء الدين المسلمون بمختلف طوائفهم على تصنيف الكتب الخاصة بأيام السعد والنحس؛ وقد لاحظت أن الشيخ آقا بزرك الطهراني (ت 1970م) يذكر في أماكن متفرقة من موسوعته (الذريعة) ما يزيد على 15 كتاباً في هذا الموضوع الذي يطلق عليه في الأغلب (التقويم) أو (الجدول)، وتركز هذه النوعية من الكتب على تحديد أيام السعد والنحس والليالي والساعات وذكر ما يدفع بها النحوسة من الأعمال الواردة الشرعية وبعض الأوراد والأدعية.
ويذكر الطهراني أن تأليف (دفتر التقويم) أو (دفتر السنة) يُعد عرفاً قديماً في الشرق وهو يشتمل على أمرين مهمين، الأول تطبيق التواريخ المختلفة المستعملة عند الناس يوماً بيوم لضبط الوقائع أولاً ولتعيين السعد والنحس من الأيام ثانياً؛ ذلك أن علم النجوم كان مرتبطاً بالكهانة إلى حد بعيد، وكان الغرض الأصيل من تعلم هذا العلم هو استنباط معتقداتهم والعمل بها، وهذا ما كانت تقوم به هذه الدفاتر أيضاً، فكان المنجمون يستخرجون التقاويم وينظمونها ويعينون الأيام السعيدة والنحسة فيها، ثم يهدونها إلى الأمراء والسلاطين وهذا كان رائجاً قبل الإسلام أيضاً على نحو ما، لكنه عاد وشاع في مطلع العهد العباسي. (الذريعة 8: 211).
قد تقول هذه الكتب أشياء كثيرة عن طرد النحس وجلب السعد أو عكس ذلك؛ لكن الأرجح أن هذا الشرق المنكوب والغارق في خيباته ونحسه الدائم يحتاج إلى أكثر من (تقويم) و(جدول) حتى تصلُح أحواله.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4854 - الإثنين 21 ديسمبر 2015م الموافق 10 ربيع الاول 1437هـ
بوركت
كثرا ما نستفيد مما تكتب بارك الله فيك