في أمسية ضمّت تشكيلة زملاء وأصدقاء عرب من الأردن واليمن والجزائر وسورية، بعضنا التقى البعض الآخر للمرة الأولى، بدأ الحديث عن أوضاعنا العربية العصية على التغيُّر إلى ما تحبه النفس، وكم هي متشابهة الهموم التي أخذتنا شيئاً فشيئاً إلى حيث وجدت مخرجاً إلى ذلك الخيط الرفيع بين المبكي المضحك (مع الاعتذار لقائل الكلمتين التي لا نعرفهما إلا بالمضحك يأتي أولاً) فتدرّج الحديث بسقوط حواجز التعارف الأولى وصار التندّر بصفات وأمزجة الشعوب التي ننتمي إليها، والتي أصبحت تُعرف بها وتتقبلها خصوصاً إن جاءت في قالب من الفكاهة وحسن النية. وبين الشعوب التي لا يفسد دلالها وتدليلها لنفسها صوت المدافع والحروب الطويلة التي تمر بها، وبين شعوب جادة، كانت أيضاً شعوب البين بين.
كان النصيب الأكبر للشعوب الجادة التي صارت محل التندر وجرت محاولة فهم الأسباب التي دعت لهذه الجدية برغم أنها محاطة بشعوب ذات أمزجة غير ذلك، وتؤويهن ظروف طبيعية مشابهة. لم تنتج المحاولة إلا مزيداً من الفكاهة والضحك التي تقبّلها أبناء هذه الشعوب وكأنّها صفات جينية متوارثة عبر الأجيال ولا سبيل لتغييرها بعد أن ترسّخت في التكوين وفي أذهان المستغربين والمتندرين.
وليس المجتمعون في ذلك المساء هم أوّل من حاول تفسير هذه الاختلافات في أمزجة البشر فالتاريخ حافل بمحاولات العلماء والفلاسفة من مختلف الشعوب والحضارات الذين حاولوا إيجاد تعريف لأسباب الاختلافات في الأمزجة البشرية. كان المناخ وطبيعة البيئة هما أول ما ورد في تفسير هذه الأمزجة، فهما لا يؤثران في البشرة ولونها وحسب وإنما ينفذان إلى الداخل ليشكلا الروح التي تطل على العالم في انفراجة الشفتين وفي اتساع بؤبؤ العين عند الدهشة، وفي التعامل مع الحزن ومع الفرح ومع النكتة ومع ضغوطات الحياة، كما تأخذ اللغة واللهجة ومخارج الحروف نصيبها منهما.
وفي هذا المعنى، قيل إن الساكنين بالقرب من البحر يحملون صفات التعايش معه من شجاعة على ركوب المخاطر وفضول الغوص في المجهول فيما تمنحهم أجواؤه المشبعة بالرطوبة ليونة في الأطباع يفتقدها الساكنون في الصحاري الذين يطورون مهارات الفراسة ويشحذون ذكاءهم، بينما يتميّز الجبليون بالصلابة والقوة الجسدية.
وفي وصفه لأطباع البشر تطرق إلى ذلك العلامة التونسي ابن خلدون في القرن الرابع، في مقدمته بالقول: «إن الأجواء الحارة الجافة تَحْمل الناس على المرح وخفة الروح وعدم الحذر، بينما تُعطي الأجواء الباردة والرَّطبة عكس هذه الصفات». ومثله قال مونتسكيو في كتابه «روح القوانين»: «كما نستطيع تمييز أنواع المناخ بخطوط العرض نستطيع بواسطتها أيضاً تمييز طبائع الشعوب وأمزجتها». واعتبر أن للمناخ تأثيراً مباشراً على الأعصاب والعضلات ومن ثم على تصرفات الناس وأخلاقهم العامة فتزداد الحيوية والرغبة في العمل في المناطق الباردة بينما يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى الكسل والعزوف عن العمل.
ومن إرث العرب، اشتهرت قصة الشاعر البدوي، علي بن الجهم، الذي طمع في الحصول على مكافأة الخليفة المتوكّل الذي كان حاكماً في بغداد، فأنشد له قصيدة قال فيها:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قرع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلواً
من كبار الدلا كثير الذنوب
فأجرى الخليفة اختباراً على خشونة لفظه بعد أن شعر بحسن مقصده، فأسكنه في بستان تحيطه الخضرة على نهر دجلة ووفر له رغداً من العيش. وعندما استدعاه بعد ستة أشهر لينشد له قصيدة أخرى. قال الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدت جمراً على جمر
فتأكد المتوكل من ظنه حتى قال: «خشيت عليه أن يذوب من رقته ولطافته».
وفي العصر الحديث لم يعد المناخ والبيئة هما المؤثر الأكبر على أمزجة البشر، ويطوران قدرات جسدية ونفسية لمقاومة ما يستجد تحت الظروف نفسها، فهناك انضمت إليهما عوامل ربما تكون أكثر أهمية لشدة وقعها على الناس ففي السابق كان الإنسان يعيش في دورة حياتية يومية لا تتجاوز تلبية الاحتياجات الكافية للعيش والحماية، بينما تعقدّ الحياة وظهور ضغوطات مختلفة وغير مسبوقة جعل للحالة النفسية والاجتماعية تأثيراً كبيراً على ما يظهر من تصرفات وسلوك الأفراد. ولأن الإنسان هو كائن شديد التعقيد بين الكائنات وسريع التأثر بالتغيرات من حوله وشديد التمسك بالحياة في آن واحد فقد طور لمزاجه وسائل الهرب من الضغوطات. البعض يستسلم لهذه الضغوط والبعض يكافحها ويتجاوزها بالضحك والسخرية منها.
قرأت ذات مرة تفسيراً لباحث نفسي لحالة الضحك الناجمة عن الضغوطات بأنها تشبه دغدغة باطن القدم التي تدفع الشخص لأن يسحب قدمه أولاً، وإذا استمرت دغدغة قدميه فإنه إما أن يتم تخزين طاقة رد الفعل في الجسم وإما أن تزيد عن احتمال الشخص ويتم اطلاقها في صورة ضحك. والفارق بينها وبين الضحك العادي أنها قد تفرز حركات تشنجية فإما أن تكون الضغوطات كثيرة وممتعة في آن، وإما أن يكون الضحك هستيرياً ينفّس عن طاقات رد الفعل. وقد يكتفي بصاحبه أن يهرب في لحظات الضحك - إذا كان حقيقياً - من واقع صعب ومزعج يشبه دغدغة القدمين قسراً ومحاصرة صاحبها عن سحب قدميه، وإما أن يكون مخرجاً حقيقياً للضغوطات ومدخلاً لمزاج آخر يستحدث قوة حقيقية في الشخص تعينه على التعامل مع الضغوطات بدلاً من الخضوع لها.
في هذه الأمسية كان الجميع يضحكون. المجتمعون تنوعوا في رد فعلهم على تحول إحباطاتهم من الأوضاع إلى مادة للضحك والسخرية. البعض ضحك على عدم قدرة الآخرين على الضحك لتمترس الوجوه والنفوس خلف جدية يُعتقد أنها الأنسب للحياة، والبعض ضحك من القلب كي يخرج للحظات من مزاج الإحباط آملاً أن يلازمه شعور الرغبة في الضحك لتحويله، مع التدريب، إلى ضحك حقيقي طامعاً بتدفق الدم وتوسّع الأوردة كما ينصح علماء تطوير النفس، بالإضافة إلى أن الضحك يحرك عضلات الوجه والبطن والجهاز التنفسي كما يزيد من الهورمونات الإيجابية ويجعلها تتفوق على الخلايا السلبية.
الاختلافات تواصلت بعد غرق الجميع في موجات الضحك المتتالية لتعبّر عن أي مزاج مناخي وجغرافي ينتمي إليه كل واحد وواحدة من المجتمعين. الجميع أخذوا نفساً عميقاً وقال البعض: «اللهم اجعلها ضحكة خير علينا»، بينما قال الآخر: «اللهم اكفنا شر هذا الضحك»!
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 4848 - الثلثاء 15 ديسمبر 2015م الموافق 04 ربيع الاول 1437هـ