تطرق المقال السابق لـ «الإعرابي»، ، أما الثاني، فهو الليبرالي، الذي يحقق مصالحه من داخل الحَيْ والحِمى، يحتمي بالأجنبي ويغزو به أُمته ومجتمعه، وحينما تَتَحَقق مصالحه، يتوارى مختبئاً خلف جدار ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني، وهي مؤسسات في أغلبها تخفي خلف جدرانها أوكاراً للتجسس والعمالة والفساد (أنظرإلى الفضيحة التي أثيرت في أميركا اللاتينية حول مشروع «كاملوت» انظر د.ناهد صالح، نحو علم اجتماع عربي، ندوة، المستقبل العربي السنة السادسة العدد (54) أغسطس/ آب 1983، ص 139).
وعلى الرغم من اختلاف الطبيعة الذاتية بين الاثنين كواقع نفسي وعلى الرغم أيضاً من الاختلاف التاريخي لطبيعة المصلحة والاختلاف في طريقة التصرف بها كغنيمة إلا أن هناك قواسم مشتركة للخبرة فيما بينهما يمكن تحديدها على النحو التالي:
1 - على المستوى النفسي البحت: تتصِفُ الخبرة التحليلية في الحالتين التصوريتين معاً الحالة التصورية الأعرابية التاريخية والحالة التصورية الليبرالية المعاصرة تتصف في الحالتين معاً، بأنها خبرة فردية بسيطة ومباشرة، يستحضرها الفرد في العادة بشكلٍ عاطفي تلقائي من داخل واقعه النفسي، وعادةً ما يكون هذا النوع من الخبرة الداخلية مُشَبَّعاً غريزياً بالدوافع الحيوية كدوافع أوَلِيَّة، كما هي عند «فرويد» ومشبعاً ببعض العواطف والنزوات العامة كما هي في ظاهرة اللاشعور الجمعي عند «يونغ « والتى تدفع فجأة بالسلوك إلى حالة ما يسمى بالسلوك الهادف الموجه غيرالمقصود خاصة فيما يتعلق بالمصلحة، وإن كان الدافع هنا موجهاً في استجابته من خلال ظواهر الكبت، بشكلٍ يَنُمُّ عن تضخم واختلال موضوعي في مستوى الوجود الحيوي للفرد كنتيجة للحرمان - ككبت - حتى يصل إلى مستوى ما يسمى بـ «الحَيّدِ» حيث يقذف الكبت بالسلوك إلى الخارج. لذلك تَرى الليبرالي في حالتنا المعاصرة ، كالأعرابي في حالتنا التاريخية كليهما يَحْكُمُهُ نفسياً « تفكير اللحظة» فإذا تغيرت اللحظة النفسية كالشهوة أو المحبة أو الكره - وهي لحظات سريعة التَغَيُّر بطبيعتها تَغَيَّرَ الموقف الشخصي والسياسي لديه. فالليبرالي العربي مثلاً: غير قادر على خلق أو اتخاذ مواقف اجتماعية استراتيجية أو مواقف طويلة الأمد. لأنه غير قادر في الأصل على استحضار خبرة اجتماعية علمية موضوعية تساعدة استراتيجياً على اتخاذ مواقف عامة. والغريب أن الليبرالي العربي في حالتنا النفسية - الثقافية المعاصرة هذه عندما تتغيير المواقف أمامه، وتنقلب هذه المواقف متعاكسةً أمامه مئة وثمانين درجة، فإنه لا يَحس بالتناقض بل يبدأ يفكر عملياً من جديد في مستوى اللحظة الآنية الجديدة دون أن يستفيد من تجاربه السابقة على عكس الأعرابي في حالتنا التاريخية الذي لا يُؤمِنُ ولا يَحس بالتناقض أصلاً باعتباره كُلاً صحراوياُ متناقضاً - نهاباً وهاباً.
2 - على المستوى السياسي: تَتَخذُ الخبرة في الحالتين معاً اتجاهاً عملياً - براجماتياً - تتداخل فيه وتختلط الغايات بالأهداف والوسائل بشكلٍ تصبح فيه الغاية مبرراً للوسيلة مثل ذلك: إن غاية الغزو كظاهرة معاصرة في حالتنا هذه تبرر وسائله الأجنبية حتى لو كانت غاياته، غايات الهدف منها هو الإصلاح الداخلي، إلا أنها غايات تتبع في النهاية أهدافاً في الخارج وحتى تتحقق مثل هذه الأهداف يُمارِس بعض الليبراليين في مثل هذه الحالات النفسية العاطفية يمارسون صنوف التملق والرياء كأساليب وأدوات سياسية للغزو، حيث تكثر وتتعدد أساليب الكذب والنفاق والتحايل عندهم، ويعم الارتهان للأجنبي، وتتفشى الانتهازية بينهم ويصبح اقتناص الفرص متى ما توافرت هو همهم وأحياناً يبدو على سلوك الأفراد منهم نوع من التعفف المادي، إلا أنها عفة ليبرا - أعرابية، ماكرة تاريخياً مبطنة أعرابياً بشكلٍ ذاتي تهدف إلى تكبير الفرص وتسمينها فقط من أجل اقتناصها بالانقضاض عليها مرة واحدة.
وقد بين القرآن الكريم صنوف الرياء في الحالة التاريخية «الأعراب أشد كفراً ونفاقاً» (سورة التوبة، آية 97). أما في الحالة الليبرالية المعاصرة فيكفي الرجوع في مجال السلوك إلى «المثالية - الذاتية» كخلفية فلسفية أخلاقية «للبراجماتية» (هورتيز، أصول فلسفة الطبقة الوسطى، مصدر سابق، ص148) «Pragmatism»، كما يمكن الرجوع أيضاً إلى الجانب السلبي من نظرية المنفعة عند «بثام» و «بروكلي» و «جون ستيوارت مل»Roll Erric , A History of Economic thought Faber and Faber Ltd,London,1961,pp.138195.
3 - وعلى المستوى الحضاري: فإن الخبرة في الحالتين الأعرابية والليبرالية، خبرة مَلُوْلَةْ لا صبر لها، رغم اختلاف ظروف الحياة الاجتماعية فيما بين الخبرتين فالأعرابي في حالتنا التاريخية المتجول فوق بَعِيرِهِ بين الفيافي باحثاً عن رزق، ورزقه في ظل رُمْحِهِ كما وصفه «ابن خلدون» (د. علي الوردي، منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته ص246). والليبرالي في حالتنا المعاصرة، والذي يتنقل ليلاً بسيارته الفارهة بين صالونات المجتمع المدني باحثاً له هو الآخر عن رزق، ورزقه هذه المرة في ظل لسانه وقَلَمِهِ كما وصفه «محمد عزت حجازي» (محمد عزت حجازي، نحو علم اجتماع عربي، ص 17- 18). نقول إن هذا الأعرابي التاريخي، الباحث عن رزقه في الصحراء وهذا الليبرالي العربي المعاصر، الذي يبحث عن رزقه في الصالونات تحسباً «لعَمَلِ عَشاءْ» وليس «عَشاء عَمَل» كما يروج له اجتماعياً في الأوساط الدبلوماسية والأكاديمية. هذا الليبرالي وذاك الأعرابي رغم إختلاف ظروف الحياة فيما بينهما، إلا أن الخبرة عند الإثنين معاً خبرة واحدة مَلُوْلَةٌ، لا تطيق الصبر من أجل نيل وتحقيق الأهداف المرجوة لديه. فالأعرابي يحارب معك، وإذا أَحَس بتغيير في مَجرى المعركة لصالح العدو إنقلب ضدك، وأخذ يحارب إلى جانب العدو ( فيما يتعلق بالخبرة الأعرابية وعدم قدرتها على الصبر في المعارك. انظر: جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام، ج4 ص 296 ص 408-409)
وهكذا الليبرالي في حالتنا المعاصرة، عندما يفقد صبره كمناضل، يقدم التنازلات دون ثمن، فهو نتيجة لطبيعة خبرتة الذاتية، كخبرة فردية بسيطة مباشرة، مستعجل، لا يميز بين عمر الفرد وبين عمر الأمة لأن الفرد وهو حساب كمي في الأساس يمثل عنده وسطا نوعياً للأمة، وهي مسألة خاطئة، أو مسألة محسوبة بطريقة خاطئة على إعتبار أن الفرد هنا يحسب نوعياً كشخص وعلاقة وموقف ولا يحسب كمياً كفرد كعدد فقط، فالفرد كظاهرة عددية كمية لا يمثل وسطاً حسابياً للأمة كظاهرة لخبرة عامة، أي كتاريخ وتراث وعلاقات ومواقف.
إلا أن الحسابات الفردية الخاطئة وربما غير الواعية في جزء كبير منها هي التي تقف خلف كل ذلك. والدليل هو ما حدث لنا في «أوسلو» و «مدريد» وما حدث لنا في حالات أخرى عندما يحتمي الليبرالي بالأجنبي ويستقوي به على أهله ومجتمعه (فيما يتعلق بطبيعة الخبرة الليبرالية، انظر: التراث وتحديات العصر في الوطن العربي، ندوة، الفصل العاشر، المسألة الاجتماعية بين التراث وتحديات العصر، د. سعد الدين إبراهيم ص 500)، بالضبط كما فعل الأعرابي التاريخي في الأطراف وعند الحدود في تحالفاته التاريخية الساسانية الشرقية أو الرومانية البيزنطية الغربية، بل كما فعل الأعراب مع الرسول (ص) في غزوة أُحد عندما تركوا المعركة واتجهوا إلى تحصيل الغنائم حيث استدار عليهم خالد بن الوليد في تلك الواقعة والقصة معروفة.
4 - وعلى المستوى الإجتماعي لطبيعة الخبرة: فإن الخبرة الأعرابية كتصورعام، لا تعرف «الكُل» فالشجرة في خبرة الأعرابي هي أوراق أو عيدان - جمع عُود - والأغلب أن تكون الشجرة عنده مجموعة «عيدان» لخبرته بالحطب. فهو لا يرى الشجرة ككل عندما يُسأَلُ عنها، ولا يدقق في نوعها أصلاً وإنما يراها كأجزاء، ويصفها عند السؤال عنها بالجزء الذي يستفيد منه مصلحياً كوصفه الشجرة بالحطب مثلاً لمعرفته الكمية بالخشب كوقود وعيدان.
هكذا الخبرة التحليلية لدى الليبرالي العربي «الإمبريقي» (محمد عزت حجازي، مصدر سابق، ص 28) في حالتنا المعاصرة، خبرة فردية انتقائية، كمية إحصائية، تفتت الكُل النوعي إلى ذرات كمية متناهية لا رابط بينها. اللهم أغثنا من الخبرتين معاً وأرجعنا ثانية إلى خبرة عربية عُمَرِيَّةدد أصيلة ومتميزة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف بن خليفة الكواري"العدد 4847 - الإثنين 14 ديسمبر 2015م الموافق 03 ربيع الاول 1437هـ