ألقى عبدالله بشارة أول أمين عام لمجلس التعاون الخليجي، في افتتاح منتدى الخليج والجزيرة العربية في الدوحة، الذي نظم في الفترة ما بين 4 – 7 ديسمبر/ كانون الأول 2015، كلمةً سجل فيها تجربته في أمانة المجلس التعاون الخليجي، وهذا نصها:
أتشرف بأن أقدم لكم سجلاً موجزاً يجسد تصورات مجلس التعاون التي رسمها قادته في سنواته الأولى، وأتحدث عن تجربة عشتها شخصياً، وتابعت خلالها الجهود التي بذلها القادة لتحقيق الأهداف التي جاءت في تصوراتهم.
كان قرار قادة الخليج في تأسيس مجلس التعاون استلهاماً لمنطق التاريخ بضرورات مواجهة المخاطر بموقف خليجي جماعي يحد من تهديداتها، ويعالجها بالحكمة الخليجية المتوارثة في الاتزان والتعقل وتكثيف التشاور تحصينا لسلامة المنطقة من أذى مغامرات المتهورين، المدفوعين بالتوسع الاقليمي والمتشربين بأوهام مسؤولية التغيير ليس في أوطانهم فقط، وإنما داخل دول المجلس.
ولم أكن أتصور بأن قرار قادة مجلس التعاون إنشاء المجلس في 25 مايو 1981 سيضع على أكتاف المجلس مأمورية عربية واقليمية وعالمية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة، بأبعاد لها صلة بالأمن والاستقرار اقليميا وعربيا وعالميا.
كانت لائحة الأعباء متعددة، ومعقدة، وقف الحرب العراقية – الايرانية، بحشد عربي ودولي لمنعها من الوصول إلى تراب الخليج، والحفاظ على توازن القوى، ومقاومة تغيير النظام الاقليمي، وتأمين موقف عربي موحد، وخلق وعي عالمي مؤيد لمساعي المجلس، وممارسة الضغوط على الطرفين لوقف القتال، والتصدي لجهود إيران التي تريد بناء راديكالية خليجية مذهبية مساندة لها داخل دول المجلس.
كما شدني أيضا ما كان يحمله القادة من غيرة وطنية عميقة للحفاظ على الدولة الخليجية بحدودها المرسومة منذ الحرب العالمية الأولى، وعزمهم على ترسيخ الالتصاق الشعبي بتراب الوطن، وتعظيم الاعتزاز بالشرعية التاريخية للأنظمة الخليجية، وإدراك قادة المجلس بأن قوة الدولة الخليجية تتواجد في التفاعل المتوارث بين مؤسسات الحكم وبين المواطنين.
كان انطلاق المجلس في خطواته الأولى، عربيا، يسعى لبناء علاقات بين الدول العربية يحترم فيها الجميع سيادة الدولة الوطنية دون تدخلات، وتأسيس شراكة خليجية-عربية تقوم على التفاهم السياسي والانتفاع الاقتصادي والتداخل الثقافي في أجواء من الألفة والاطمئنان، كما انطلق المجلس، تنفيذا للمسؤولية الخليجية في وقف الحرب، في إقناع بغداد وطهران بعدم جدوى الاقتتال، وأنها حرب بلا نصر، مع التلويح لكل من الطرفين، بمخاطر العبث في الاقتراب من منابع النفط التي تشكل العمود الصلب للأمن والاستقرار العالميين.
عمل المجلس المستحيل لتحقيق مأموريته في أجواء عدائية أفرزتها الحرب بين العراق البعثي – وإيران الثورة، والعداء المستحكم بين بعث العراق وبعث سوريا، ومواجهة الأحزاب العربية والتكتلات السياسية ضد مصر بعد اتفاق السلام مع اسرائيل، وتبني إيران نشر الثورية المذهبية الراديكالية وتجاهلها لقواعد السلوك الدولي وقواعد حسن الجوار، وانعدام الأمل في حل عادل لقضية فلسطين.
حمل المجلس هذه اللائحة الثقيلة من عام 1981 حتى عام 1991, طوّق خلالها التهديدات الايرانية، وأفشل فرصها بالفوز في الحرب، ودخل مدافعا عن الأراضي العراقية، وحشد العالم لحماية دول المجلس والحافظ على توازن القوى، ودعم العراق في دعوته لوقف القتال، ثم نجح المجلس مرة أخرى، في تحرير الكويت من الغزو العراقي، وخرج بعد عشر سنوات من قيامه والدولة الوطنية الخليجية بعافية، وترابها مصون، واستقلالها راسخ.
هناك أربعة موضوعات ذات حيوية خاصة في دبلوماسية مجلس التعاون الحالية: ملف الطاقة، الارهاب ومخاطر الطائفية، الحوار مع إيران, ومستقبل الوضع العربي.
اسمحوا لي أن أستذكر معكم التجربة التي عاشتها دول الخليج المنتجة للنفط في أعقاب حرب أكتوبر 1973, وفرض حظر التصدير.
عشت شخصيا أجواء الصدام وانعدام الثقة التي تسيدت مناقشات الأمم المتحدة بعد حظر النفط، ولمست الفزع الذي أصاب فقراء الدول النامية، وشعرت بتوجهات غربية بقيادة الولايات المتحدة نحو استراتيجية نفطية من خارج دول النفط العربية، قوامها التكنولوجيا الحديثة والبحث عن بدائل والاتساع في التنقيب عن منابع الطاقة المتجددة.
ومع ذلك، يظل الترابط الخليجي-العالمي مساهما رئيسيا في استقرار هذا الكون، اعتمادا على حقائق من أبرزها خصوصية الطاقة التي يملكها قليلون ويحتاجها الكثيرون، لا ازدهار بدونها، ولا استقرار في غيابها، أعطت دول الخليج شيئا اسمه في لغة الأمم المتحدة قوة الندرة، Power of Scarcity، وقفت شخصياً على معانيها في أزمة الطاقة 1973, خاصة مع مجيء الرئيس الجزائري الهواري بومدين ليفتح ملف النظام الاقتصادي العالمي الظالم للدول النامية، والمحصن للشركات العالمية الكبرى، شعرت بأن النفط أعطى لدول الخليج وهج القوة وحجز لها مكانا مميزا في مداولات المال والاقتصاد، ورفع مقامها السياسي ووضعها في موقع استراتيجي يمس أمن العالم وازدهاره.
يأتي واقع اليوم مخالفاً لما اعتدنا عليه في الموقع الخليجي المميز، فالتكنولوجيا الحديثة وفرت النفط الصخري وبأسعار صارت مقبولة مع التطور التكنولوجي، وهنا يبرز التحدي الذي فجرته تكنولوجيا النفط الصخري للدول الخليجية المنتجة، فأهم شيء أن لا تفقد منابع دول الخليج وهجها ولا تتأثر ندرتها، لأن الكلفة باهظة داخليا وعربيا وعالميا، سياسيا واقتصاديا وتنمويا، ولا مفر من الوقفة الخليجية الجماعية للتفاهم مع كبار المستهلكين في إطار حوار داخل الأوبيك أو خارجها.
الارهاب هو الوحش المتربص بالخليج وبالعالم، يتنوع علاج الارهاب من المشاركة في الائتلاف العالمي إلى صلابة الوحدة الوطنية على قاعدة الاجماع الشعبي، واتساع قنوات الحوار, وضم كل الأطياف في عقد سياسي شامل وعازم مع حشد القوى الوطنية وضخ موجات الأمل لدى الشباب وبناء منظومة التكافل بين أبنل الوطن مع اغلاق المنافذ التي يتسلل منها لتقويض النظام الخليجي، بمراجعة نظام التعليم والاصرار على متانة المواطنة القائمة على المساواة، والتعالي عن المذهبيات، ومحاربة الغلو، والتأكيد أن الاسلام دين الوسطية والتسامح والاعتدال.
أصحاب المعالي والسعادة...
كان الحوار مع دول الجوار أبرز معالم الاستراتيجية الخليجية التي رسمها القادة، لاسيما مع إيران التي تتبنى دبلوماسية راديكالية غير مألوفة، تتناقض مع قواعد السلوك الدولي، ولقد قرر قادة الخليج في القمة الثامنة التي عقدت في الرياض بين 26 – 29 ديسمبر 1987، بدء حوار مع إيران يعتمد على عشرة مبادئ مستوحاة من ميثاق الأمم المتحدة، وقواعد حسن الجوار وبناء الثقة، وسُلمت إلى إيران رسمياً على أن تشكل الأرضية للحوار.
لم تعط إيران تلك الوثيقة الجدية التي تستحقها لأنها لا تتناسب مع مضمون الخطاب السياسي الإيراني، وظلت العلاقات بين الدول الأعضاء وإيران تدار ثنائيا وفق قاعدة "صد المخاطر" والنأي عن الانزلاق في خصومات، رغم مواصلة التحريض من قبل الاعلام الإيراني.
واضح بأن مجلس التعاون يصوغ الآن نظاما عربيا جديدا, برزت بعض خطوطه، كما نراها في عملية تأكيد الشرعية في اليمن، ومقاومة التسلل الطائفي من قبل مجموعات الارهاب, ويهدف هذا النظام إلى تأسيس قاعدة الشرعية القانونية للأنظمة العربية، التي يجب أن تستند على قبول شعبي عام وعمل مؤسساتي معترف به، كما يؤكد هذا النظام الجديد شرعية كل نظام عربي ضمن الحدود الدولية المعترف بها واحترام الدولة الوطنية العربية والابتعاد عن التدخل في الشؤون الداخلية، مع تكافل اقتصادي وتنموي وانفتاح استثماري وعلاقات قائمة على الاحترام والاطمئنان.
بعد أيام يجتمع القادة في مدينة الرياض لبحث ملف متشعبا وساخنا، ولعل زخم الأحداث وخطورتها تدفع القادة إلى تجديد الدعوة للانطلاق نحو الاتحاد بمواقف محددة، وتأمين جبهة موحدة تجاه إيران، للحد من اندفاعاتها الطائفية الاقليمية، واستمرار الاصرار على غرس مبادئ الوسطية في الاسلام ووقاية تراث القادة المؤسسين في تطلعهم إلى تنظيم العمل العربي وتحصينه من تطرف الأيديولوجيات ومن المبالغة في طرح الشعارات التي لا تناسب الهوية العربية، وتسببت بالمزيد من الانشقاقات.
أشعر بارتياح لنجاح مجلس التعاون في الحفاظ على أمن الدول الأعضاء، وصون نظامها السياسي والاقليمي، وإقامة قاعدة اقتصادية تنموية عربية جوهرها الاعتدال السياسي والانفتاح الاستثماري، وأشعر أيضا بارتياح اضافي لأن دول المجلس مدركة لقدرها في قيادة العمل العربي الناضج والمسؤول والمنفتح على متطلبات الدولة العصرية، هذا هو مضمون الأمل الذي ينتظره أبناء دول المجلس من قمة الرياض القادمة.