يسلّط الحوار الذي أجراه خالد الرُشد بقناة «روسيا اليوم» مع ليونيد موتوفيلوف، المستشار السوفياتي السابق للقوات السورية في لبنان إبان فترة الاجتياح الاسرائيلي (1982 - 1983) ، يُسلط الضوء على واحدة من الصفحات المجهولة من تاريخ الحرب الباردة بين القطبين السوفياتي والأميركي والتي كانت منطقة الشرق الأوسط إحدى ساحاتها، وحيث شارك الاتحاد السوفياتي بشكل محدود وسري إلى جانب العرب في حروبهم مع «إسرائيل» بعد هزيمة 1967، وبالمثل فعلت أميركا في المشاركة في القتال بصورة سرية ومحدودة إلى جانب «إسرائيل»، ولا وجه للمقارنة بطبيعة الحال بين هذا التدخل حيث كانت مشاركته القتالية تنطلق من عقيدة قتالية مبدئية قومية واُممية مشتركة مع سورية ضد الاحتلال الإسرائيلي المستند على ايديولوجية دولة عنصرية صهيونية توسعية وبدعم لا محدود من الإمبريالية الأميركية، فيما التدخل الروسي الحالي تفرضه اعتبارات برغماتية نفعية محضة طارئة لكلا النظامين، لا علاقة لها بالصراع العربي - الإسرائيلي، وليس هنا مجال الخوض فيها.
أُرسل العقيد موتوفيلوف في أوائل الثمانينات لمساعدة القوات السورية المتواجدة في لبنان لرفع جاهزيتها ومهاراتها القتالية في الحرب التي خاضتها إلى جانب القوات الوطنية - الفلسطينية المشتركة ضدالاحتلال الإسرائيلي 1982، وهي حرب لم تكن متكافئة وانتهت بهزيمة ماحقة موجعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وطردها وفصائلها المقاتلة من لبنان، إذ كان ميزان القوى حينذاك يميل بقوة لصالح «إسرائيل» من جميع النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية، جراء الصلح المنفرد لأكبر دولة عربية (مصر الساداتية) مع إسرائيل 1979، ناهيك عن التخاذل العربي الفاضح إزاء العدوان.
ومن الحوار مع الجنرال الكبير موتوفيلوف نعرف أنه كان من أكفأ وأخلص الضباط السوفيات الرفيعي المستوى المرسلين إلى سورية حينئذٍ. وبالفعل فقد أبلى بلاءً حسناً منقطع النظير، ونال خمس رتب عسكرية رفيعة، منها ثلاث بصفة استثنائية، كما نال العديد من الأوسمة وشهادات التقدير من قيادة بلاده والقيادة السورية، وأكمل مهمته بتفانٍ وعلى أحسن وجه في تدريب ورفع جاهزية اللواء السوري 62 المتواجد في لبنان، وعاين إسقاط طائرات أميركية شاركت في العدوان سرياً إلى جانب إسرائيل على لبنان بصواريخ سوفياتية وأسر طياريها الأميركيين، وتعرض مرتين للخطر البالغ: الأولى عندما ضلت عربته العسكرية بصحبة بعض رفاقه من الضباط السوفيات ووجدوا أنفسهم فجأةً وجهاً لوجه عند حاجز اسرائيلي، ولولا تمكن جندي إسرائيلي، روسي الأصل، من إبلاغهم بالروسية خلسةً بأنهم الآن في منطقة إسرائيلية وأرشدهم إلى الطريق المؤدي الى الأراضي السورية ففروا من الحاجز فوراً لكانوا في الأسر، والمرة الثانية، وهي الأخطر، والتي كُتب له فيها عُمر ثانٍ، بعدما تجرّع بعض سكرات الموت الحقيقية، فكانت عندما انفجر لغم أدى إلى بتر ساقه بينما كان يحاول الاقتراب من موقع إسرائيلي على مكان مرتفع ليستكشف عما إذا هو الذي يترصد تحركاتهم حيث تُشن عليهم غارات إسرائيلية بالمدفعية فور تحركاتهم لعلم الاستخبارات الإسرائيلية المسبق بوجود ضباط سوفيات كبار بالأسماء بين القوات السورية، ومن بينهم اسمه، حيث بثت الإذاعة الإسرائيلية ذات مرة في سياق حربها النفسية نبأ مقتله كذِباً، ونظراً لاهتمام الرئيس حافظ الأسد الشديد به، أمر بنقله إلى موسكو على طائرته الشخصية، لكن تركيا اعترضت مرورها بأجوائها فتم نقله بطائرة شحن روسية، واُجريت له عدة عمليات جراحية بعد فترة من الموت السريري، كان فيها بين الحياة والموت، ودخل خلالها في إشراقة نجوى روحانية وجدانية بين حقيقة العالم السفلي والعالم العلوي، ونذر مبتهلاً إلى الرب خلال ثواني الاستفاقة المتقطعة إذا ما أنقذت حياته من الموت، بأن يكرّس ما تبقى له من عُمر لخدمة الرب والدين ، وهكذا استجاب الله لدعائه ونجحت العمليات، وتعافى من إصابته الخطرة، وأوفى بنذره بتحوله إلى رجل دين عُرف بـ «المطران روفائيل» في إحدى الكنائس، بعد أن تخلى عن عضويته في الحزب الشيوعي والعمل العسكري ليتفرغ بالكامل للعمل الديني الكنسي.
وكان قد لمّح قبل ذلك إلى نبوءة جدته بأنه سيصبح راهباً مستقبلاً على إثر حضوره خلسةً ذات مرة قداساً في كنيسة ما أثناء صباه، ولانزعاجه الشديد من نبوءة جدته قرر لدحض نبوءتها الالتحاق بالجيش والحزب الشيوعي الحاكم. كما يذكر مُحدثنا أنه ينحدر من اُسرة نبلاء كانت مقربة من البلاط القيصري الروسي، وشارك جده ايفان موتوفيلوف في الحرب الأهلية (1917- 1922) بين البلاشفة الشيوعيين والجيش الملكي القيصري، لكن جده انشق عن الجيش الأخير وانضم إلى جيش الشيوعيين البلاشفة لينقذ أسرته من الهلاك المحتوم إذا ما وقعت في أيدي أسر الجيش الأحمر.
وعلى رغم تخليه عن الشيوعية، فإن ذلك لم يحوّله إلى شخص حاقد على ماضيه الحزبي والفكري والعسكري برمته واعتباره خالياً من أي إيجابيات، كما هو الحال في التحولات الفكرية التي تحصل لدى الفرد أو الحزب في عالمنا العربي، بل تشعر أنك ازاء شخصية هادئة رزينة وقورة، ويقنعك بإجاباته المركزة التي تنساب من بين شفتيه بعفوية وببساطة غير متصنعة، وبصوت خافت أقرب إلى الهمس، فيتملكك احساس بوطنيته الصادقة وانسانيته العالمية المدهشة، فقد روى كل الذكريات والمواقف التي تعرض إليها إبان كفاحه القتالي العسكري الى جانب نظرائه السوريين ضد الإسرائيليين بافتخار شديد، وعبّر عن عشقه لسورية والسوريين والعرب، وقيّم عالياً كفاءة العسكريين السوريين.
كما ظل طوال حديثه ملتزماً بالتقاليد الحزبية والعسكرية المنضبطة التي تربى عليها في الحفاظ على الأسرار، فرغم مرور أكثر من ربع قرن على اعتزاله العملين العسكري والحزبي وتغيُّر نظام بلاده السياسي إلا أنه اعتذر عن كشف أسماء بعض الشخصيات العسكرية السوفياتية والسورية. ومن آرائه الإنسانية العقلانية أن الطريق إلى الله يمر عبر كل الأديان والطوائف والمذاهب، وأنه لا يحق لأحد أن يحتكر الحقيقة ويتعصب لها، ومن يفعل ذلك إيمانه ضعيف بالرب، وأنه إذا كان اعتنق شخصياً المسيحية، فذلك لأنه يرغب بعدم الانقطاع عن اُصوله وجذور أسلافه الذين ساروا على هذا الطريق لمعرفة الله. وسُئل عما إذا لاحظ ثمة حساسيات أو أشكالاً من الكراهية، سواء فيما بين الضباط او فيما بين الجنود السوريين الممثلين لمكونات الشعب السوري من سنة وعلويين وشيعة ومسيحيين وأكراد وأرمن وتركمان فنفى بشدة وجود مثل هذه الحساسيات في ذلك الزمان.
أما تعليله للصراعات الدينية والمذهبية الدائرة اليوم فيعود للابتعاد عن الرب وغلبة نزعات الشر والمصالح المنفعية الدنيوية على نقاء وسمو المبادئ الدينية السمحاء.
والحال إن حديث هذا المستشار العسكري السوفياتي للجيش السابق، المطران روفائيل، زاخر بالعِبر والدروس المستخلصة من التجربة الثرية الملهمة من حياة هذه الشخصية الروسية المرموقة الصديقة للعرب، وكم جدير بالجهات الدينية المسيحية العربية، بوجه خاص والإسلامية عامة، إقامة جسور من التواصل مع مثل هذه الشخصيات الروسية المحبة للعرب والمناصرة لقضاياهم في عصر ما بعد زوال صديق العرب الاتحاد السوفياتي.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4842 - الأربعاء 09 ديسمبر 2015م الموافق 26 صفر 1437هـ
مساء الخير
للحظة واحدة افتكرتها قصص من الخيال ولكن لله الحمد كلما تئملت في نص هادا الحادثه اشتد إعجابي وتئلقي إلى هاده الشخصيه 'لكن الغريب في الأمر عندما تتطرق إلى إسعاف هادا الرجل العسكري بعد إصابته واعتراض الأتراك لطريقة أحسست هائولاء لم يتغير شي منهم ابدأ وكانئك توصف حاضرهم الآن بما يحدث من صراعات حولنا وفتح أبواب جهنم على سوريا بإدخال هائولاء الحثاله من كل أصقاع المعمورة
الروس
الروس اكثر الالتزام دينية وانفتاحا من الغرب من الناحية الدينية
شكرا أستاذ رضي
حبذا لو تكتب عن مثل هذه القضايا في حلقات لإطلاع أكثر ماذا فعل الروس بجانب العرب