«إن السفر فرصة رائعة لترويض النفس ولاكتساب حكمة فريدة من نوعها، يكفي أن تركزي انتباهك على ما يقوله الأجانب، وكلما فعلت ذلك تقوّى نفوذك، فأحسن وسيلة تمنحك النفوذ إلى الأجانب وغيرهم هي قدرتك على فهمهم»، هكذا قالت لي جدتي الصوفية الأمية «الياسمين»، تقول «فاطمة المرنيسي».
«عليك بتركيز انتباهك على الأجنبي العابر ومحاولة فهمه، كلما فهمت أجنبياً عرفت ذاتك أكثر، وكلما عرفت ذاتك أفضل تقوت قدرتك على تحصينها». تضيف «المرنيسي»، «إن الصوفيين نجحوا بفضل تدرّبهم على الاستماع المنضبط للأجانب في الوصول لدرجة خارقة من المعرفة، أي لحالة الذكاء الخارق الذي يجعل من وصل إليه يتلقى «اللوامع»،... إن أثمن متاع يملكه الأجنبي هو اختلافه، وإذا ما ركزت على اللامتشابه والمختلف، بإمكانك أن تتلقي اللوامع»، وتتابع لها «الياسمين» همساً وبتواطؤ في أذنها، تنصحها الإحاطة بتمرينات الصوفية بالسرية: «فالتقية قاعدة اللعبة، تذكري ما حدث للحلاج المسكين!».
كما ذكرتني»الياسمين»: «بأن المرأة تركب مخاطر كبيرة حين تستعمل أجنحتها، أما حين تنسى استعمال أجنحتها، وتهملها، فإن الأخيرة تسبب لها الألم على سبيل الانتقام»، حفظت رسائل جدتي المستوحاة من حكايات شهرزاد عن ظهر قلب، وهي رسائل بسيطة مفادها «على المرأة أن تحيا كالرّحّل، عليها أن تظل دائماً مستعدة متأهبة للرحيل حتى وإن كانت محبوبة، ذلك أنّ الحبّ هو الآخر في رأي شهرزاد قد يصبح قيداً».
من الشهرة إلى القبر
حُملت المفكرة السوسيولوجية المغربية «فاطمة المرنيسي» في نعشها على الأكتاف وأودعت قبرها البارد، بعد أن تجاوزت شهرتها الحدود بما تفردت به من مشروع فكري نضالي في مسيرة تميزت بإنتاجها الخصب وخطابها الحداثي المتأسس على خلفية فكرية وسياسية تناولت حقوق المرأة والإنسان والديمقراطية في عالمنا العربي والإسلامي.
نشأت «المرنيسي» في «فاس» العام 1940 وتلقت تعليمها في الرباط وفرنسا والولايات المتحدة، وبعدها مارست التدريس بجامعة «محمد الخامس» وعدد من الجامعات الفرنسية والأميركية، وعملت باحثة في المعهد القومي للبحث العلمي بالرباط، وكانت عضواً في مجلس جامعة الأمم المتحدة، رشحت لجوائز عالمية عدة أبرزها جائزة أمير أستورياس للأدب «أرفع الجوائز الأدبية بإسبانيا» مناصفة العام 2003، وجائزة إراسموس الهولندية في 2004 والتي دار محورها حول «الدين والحداثة»، كما اختيرت عضواً في لجنة الحكماء لحوار الحضارات التي شكلتها اللجنة الأوروبية العام 2003.
اشتغال لا مكرمات
المكانة الرفيعة التي شغلتها «المرنيسي» لم تأتِ من عدم أو خمول وانتظار تلقف مكرمة يتصدق بها الحاكم، إنما هي من صميم جهد واشتغال دؤوب عرت فيه واقع المرأة العربية وقضاياها الحقوقية ومساواتها بالرجل من خلال آليات معرفية ومنهجية علمية سوسيولوجية، مارست فيها النقد وبجرأة وضعية المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية، فقفزت عبرها على تابو المحرمات ومفاهيم النظام الأبوي القائمة على التسلط والقهر والاستبداد، فدعت إلى تحرير المرأة من سطوة تقاليد ذاك النظام وأعرافه.
ركزت «المرنيسي» نقدها بتفكيك أصل الأنماط الاجتماعية والعلاقات التقليدية التي تحكم واقع المرأة وأدوارها من خلال قراءة نقدية فاحصة للتاريخ العربي والإسلامي، كما ركزت في السياق على الجوانب الاجتماعية والثقافة السائدة التي لمسناه في كتبها مثل «الجنس كهندسة إجتماعية» و «الخوف من الحداثة والإسلام والديمقراطية» و «الحريم السياسي»، إذ كشفت في مقاربتها المحددات الدينية المرسومة لمكانة المرأة ودورها في المجتمع، فراجعت النصوص الإسلامية والأدبيات الفقهية، وانتهت إلى أنها تلعب دوراً حاسماً وعميقاً في إنتاج القوانين وإعادة تكريس وضعية المرأة القائم على منظومة العادات والثقافة السائدة، كما بينت عن فجوة بين النص الذي وجدته متقدماً في بعض الجوانب لجهة حرية المرأة، مقارنة بالتراجع الذي طرأ على وضعها بعد النبوة.
قوافل مدنية
لم تكتفِ «المرنيسي» بالتنظير في قاعات الدرس والغرف المغلقة بل نشطت في محيط المجتمع المدني، فأسست لمبادرة من أجل حقوق المرأة عرفت بـ «قوافل مدنية» وساهمت بإطلاق تجمع «نساء، أسر أطفال»، لتكون بذلك نموذجاً للمتطلعين لتحقيق الحرية والمساواة والعدالة للنساء، ونالت شهرة عالمية من خلال ترجمة أعمالها إلى «25» لغة، وتدريس مؤلفاتها في أعرق الجامعات العالمية واعتبارها مرجعاً فكرياً للحركات النسائية المناصرة لحرية المرأة وحقوقها.
من أبرز تلك المؤلفات «ما وراء الحجاب» الذي تناولت فيه الإسلام من وجهة نظر المرأة وانتقدت الهيمنة الذكورية على التفسيرات الدينية في الوقت الذي دافعت فيه عن واقع المرأة في إطار الهوية العربية والإسلامية، بيد أن ما عالجته من قضايا قد أثار سجالاً فكرياً واسعاً بسبب تعرضها للمحظورات الدينية والاجتماعية التي رأت فيها عائقاً جوهرياً وسبباً يحول دون إثبات النساء لذواتهن وتحررهن من هيمنة المجتمع، واتهمت بأن تنظيراتها انعكاس للفكر الغربي العلماني المناهض للدين والقيم، على رغم نقدها الشديد للغرب في كتاب «هل أنتم محصَّنون ضد الحريم؟ حيث كشفت ما تتعرض إليه الغربيات من استلاب واستغلال يمارس عليهن وتنميط يحصرهن في تسليع الجنس فتقول: «انظروا ما يصيب جيراننا الأوروبيين: إنهم يتمتعون بصحة جيدة وبالثروة ولكنهم يفتقرون إلى السعادة في حياتهم، وأحد أسباب تعاستهم أن رجالهم يحلمون دوماً بالحريم، ولكن دون الاعتراف بذلك علناً، لأن القانون يمنعهم، وهكذا تقبع أحلامهم في الغياهب النفسفوضائية، ثم تطفو على السطح على هيئة عارضات الأزياء، هؤلاء «الغانيات» العجيبات اللواتي يعانين من سوء التغذية وتقوم دور الأزياء الراقية بفرضهن من خلال الدعاية التي تكلف المليارات».
ختاماً، رحيل «فاطمة المرنيسي» أبعد من الرحيل الوجودي كما عبرت بعمق المغربية «زهور كرام»: «إنه رحيل الخبرة وتشغيل العقل، وترتيب الذاكرة، واختراق الذهنية بجرأة المنهج العلمي والبحث السوسيولوجي، إنه رحيل الصوت الثقافي التنويري الذي لم يهادن، ولم يخشَ الأسئلة أو يهاب الجدال، انتصرت للنساء وكانت لهن موضوعاً وصوتاً وطريقة تفكير»، وعليه فلنقرأ «للمرنيسي» في غيابها الأبدي «صلاة النهار» اليابانية: «كل يوم تعيشه، يعلمك، يعلمني الفشل، عش كل لحظة، وكأنها تساوي الحياة، والاستعداد لمواجهة كل شيء، أنا حيّ (ـة)، أنا هذه اللحظة بالذات، مستقبلي هنا والآن، فإن لم أستطع الظفر بهذه اللحظة الآن، فأين ومتى أستطيع؟».
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4841 - الثلثاء 08 ديسمبر 2015م الموافق 25 صفر 1437هـ