إن الحال التي ألقت بظلالها على بعض الشوارع العربية إزاء طريقة القبض على الرئيس العراقي صدام حسين والطريقة الهوليوودية التي ظهر بها على الشاشات التلفازية إنما تدل على حال من حالات الذهول أمام مشاهد تحطم صورة «البطل» المترسخة في الميثولوجيا العربية التي تعاني من حالات الانكسار والهزيمة التي خيمت على الشعوب العربية أكثر من خمسة عقود وهي تبحث عن «البطل» المنشود الذي يعيد للأمة الكرامة والنصر المرتقب.
إن «الكيرزما» المنشودة لدى الجماهير العربية عن «البطل» المطلوب في تصديه لـ «إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية حتى لو كان هذا التصدي لفظيا وحتى لو كان هذا البطل «دكتاتورا» و«طاغية» وحتى لو قتل آلافا من شعبه... ففي سبيل القضية المقدسة وفي سبيل أم المعارك العربية كل شيء يهون من أجل «البطل» في قتاله للوحش الأسطوري.
سنجد هذا لو أعدنا النظر في الصورة النمطية للبطل التي كرستها المخيلة الشعبية في سير الأبطال الشعبيين من مثل سيف بن ذي يزن والأمير حمزة البهلوان والظاهر بيبرس الملك العادل والأميرة ذات الهمة وأبوزيد الهلالي وغيرهم من الأبطال المنتشرة أخبارهم وحكاياتهم في السير الشعبية التي كانت تتردد في القرى والمدن والقهاوي والزوايا والتكايا.
وكانت المخيلة الشعبية التي عانت من الغزو المغولي ومن الغزوات الصليبية ومن الهوان والقتل والسبي والتشريد تنسج أبطالها في تلك الحكايات التي يقوم «بطلها» بغزو المدن الصليبية ويجر أمامه أولئك الملوك الجبابرة وهم يدفعون الجزية صاغرين بينما نساء الفرنجة يتركن ديانتهن ويعلنَّ إسلامهن ويتزوجن من أولئك الأبطال المسلمين.
لذلك سنجد ذلك لو استعرضنا ما نشر من تحليلات وتوقعات وأخبار ومقابلات خلال الأشهر الثمانية التي توارى فيها الرئيس صدام حسين وما نسجته المخيلة الشعبية عن «البطل الهارب» من أكبر قوة عالمية وهو يحمل حياته على يده ومسدسه في اليد الأخرى ويلف جسده بحزام متفجر وزر التفجير في يده على أهبة الاستعداد حينما يصل إليه الأوغاد الأشرار للقبض عليه...
كما نسجت المخيلة الشعبية صورا أخرى عن «البطل» الذي سيقوم على أضعف الإيمان بإطلاق رصاصة الرحمة الأخيرة على صدغه عندما لا يجد أية وسيلة أخرى للمقاومة حتى يموت ميتة الأبطال ويشرف أمته العربية.
إلا أن تلك الصور التي نسجتها الخيالات الشعبية قد أصابتها حال من حالات الذهول والانكسار وهم يشاهدون «البطل» وقد ألقي القبض عليه ويد العدو تقلب وجهه يمنة ويسرة وتلك اليد «الشريرة» تفلي شعره وتفتح فمه لتفحص أسنانه وشعر اللحية الشعثاء، والعينان المذهولتان قد غطتا على تلك العينيين المملوءتين ثقة اللتين كانتا تلقيان الرعب في عيون الآخرين عندما كان يتسنم كرسي السلطة.
ربما كان ذلك التناقض الحاد ما بين المخيلة الشعبية المحلقة والباحثة عن «بطل» في المدن العربية في ظل زمن الانكسارات العربية تذكرنا أيضا بالمسرحية العربية التي كتبها المؤلف المسرحي علي سالم في نهاية الستينات تحت عنوان «أنت اللي قتلت الوحش» وتحكي المسرحية قصة ذلك البطل الذي قتل الوحش الذي يهدد مدينة طيبة والناس تتفرج عليه وعلى شجاعته وهو يقاتل الوحش بمفرده والناس تصفق وتغني له «أنت اللي قتلت الوحش» وتعينه حاكما على المدينة وهي في انتظار وحش آخر.
إلا أن بطل المسرحية الذي يحمل وعي «البطل» كان يصرخ في الشعب: يجب عليكم انتم الدفاع عن مدينتكم... لا ان تبحثوا عن بطل سيصبح فيما بعد دكتاتورا... إلا أن الناس لم تكن تريد القتال... بل كانت تبحث عن «البطل» المنشود الذي يدافع عنها وعن مدينتها.
ذلك هو حال الأمة العربية التي لم تفكر، وغير مسموح لها التفكير في الدفاع عن حالها وعن خلق «المؤسسات» بدلا من الأبطال إذ يذهب الأفراد وتبقى المؤسسات ويبقى القانون... ويبقى أخيرا العدل
العدد 484 - الجمعة 02 يناير 2004م الموافق 09 ذي القعدة 1424هـ