في التاسعة من عمري، كنت أخاف الخروج من البيت بعد غروب الشمس؛ لأن أصدقائي شاهدوا «أبو سويجين»، في منزل تحت الإنشاء، ويفصل بينه وبين منزلنا شارع عرضه 6 أمتار تقريباً.
و«أبو سويجين» بحسب تصورنا في ذلك الوقت، هو جني مرعب ومخيف، أظافره طويلة تصل إلى متر، وشعره كثيف وطويل، ويلبس قبعة، وهذه القبعة فيها أموال وذهب لا ينضب، مهما أخذت منها. وفي الوقت الذي نخاف فيه من الجان «أبو سويجين»، كنا نحلم أن نحصل على قبعته التي سنأخذ منها «ربيات» (100 فلس) في أي وقت نشاء؛ لشراء «الآيسكريم والمينو والكاكو والمشروبات الغازية».
والآن بعد أن كبرت، أدركت أن «أبوسويجين» هو شخصية خيالية، ربما روجها المجتمع كأداة تخويف لإخضاع الصغار لأوامر الآباء والأمهات بعدم الخروج ليلاً، لكن شخصية «أبوسويجين» فيها معان بليغة، فقبعة الرأس التي تحتوي على أموال وذهب لا ينضب، هي إشارة إلى الوعي، فالرأس دلالة إلى العقل، وما فوق العقل، الوعي، وهو الكنز الحقيقي الذي لا ينضب. ومن يمتلك الوعي يستطيع أن يوجد المال من العدم.
والحكومات تمتلك قبعة «أبوسويجين»؛ لأنها الأكثر نسبة في التحكم بالمعرفة والوعي بالمجتمع، والأكثر تأثيراً في إدارة اللعبة العقلية المنظمة للحياة البشرية داخل الحدود الجغرافية للبلاد.
والحكومة إذا أدركت قدراتها في التحكم بالمعرفة وامتلاكها إدارة تنظيم الحياة، وأدركت أن الحياة لعبة عقلية كبرى لها موازين في غاية الدقة، فإنها ستتمكن من مواجهة العجز في الميزانية ومواجهة الدين العام ومواجهة الأوضاع الاقتصادية.
فيمكن للحكومات أن توجد المال من لا شيء، وأبسط مثال؛ أرض سكنية سعرها 100 ألف دينار، يمكن للحكومات بجرة قلم، أن تحولها إلى أرض تجارية استثمارية، ويصبح سعرها 250 ألف دينار، وبالتالي فإنها أوجدت مبلغ 150 ألف دينار، من لا شيء، بمجرد تغيير التصنيف الذي هو عبارة عن ورقة مختومة بختم الحكومة، ولا تكلف 25 فلسا. فتصنيف الأراضي، نسخة لقبعة «أبوسويجين»، يمكن أن توجد أموالا من لا شيء.
ومن الأمثلة البارزة، الأرقام المميزة، أرقام السيارات والهواتف والمنازل... الخ، هذه الأرقام ملك الحكومة، وهناك من يدفع آلاف الدنانير من أجل الحصول على رقم متناسق ومميز لسيارته أو هاتفه. والأرقام المميزة أيضاَ هي نسخة لقبعة «ابوسويجين».
فالحكومات تمتلك قدرات لإيجاد المال من لا شيء، ولكن إشكاليتها أنها تعتمد على عقليات مستهلكة للمعرفة وليست منتجة للمعرفة. ومستهلك المعرفة يصعب عليه فهم اللعبة العقلية المنظمة للحياة، مجرد يكرر ما يقوله العلماء، كالببغاء.
مستهلك المعرفة قد يقود إلى أزمات؛ لأن اللعبة العقلية في غاية الدقة، فمثلاً، لو أن المستشار المستهلك للمعرفة نصح الحكومات بتغيير تصنيف الأراضي، من أجل الحصول على أموال، فهذا قد يترتب عليه أمور خطيرة، منها أن تغيير تصنيف الأراضي السكنية إلى تجارية، سيؤدي إلى زيادة في معروض الأراضي التجارية، وكلما زاد المعروض قل السعر، وإذا قل سعر الأراضي التجارية سيؤدي إلى أزمة في البنوك التجارية، لأن هذه الأراضي ستتحول إلى أصول مسمومة بالنسبة للبنوك.
وتعني الأصول المسمومة؛ أن سعر الأرض في السوق أقل من قيمة القرض، وبالتالي عجز المستثمر عن سداد القرض للبنك، ولو أن البنك أراد أن يبيع الأرض فلن يتمكن من استرداد أمواله كاملة.
ولهذا، فإن إدارة اللعبة العقلية المنظمة للحياة، تحتاج إلى عقلية منتجة للمعرفة، وإنتاج المعرفة ليس بالأمر السهل، فهي تحتاج إلى تجارب وخبرات تراكمية.
فالحكومات تمتلك قبعة «أبوسويجين» التي تحتوي على أموال لا تنضب، لكن اغتراف الأموال منها يحتاج إلى عقليات صانعة للمعرفة، وليست مستهلكة.
وأعتقد أن أي حكومة يفترض أنها تمتلك قدرة على التحكم بما لا يقل عن 50 في المئة من وعي المجتمع، وهذه النسبة تزداد بحسب امتلاكها جهازا استخباراتيا متطورا من الجيل الحديث، يتعامل مع المعرفة العقلية ويؤمن بالإقناع والتأثر والتأثير من خلال المعرفة، وليس في قاموسه استخدام القوة والإجبار والإكراه.
إقرأ أيضا لـ "عباس المغني"العدد 4836 - الخميس 03 ديسمبر 2015م الموافق 20 صفر 1437هـ
نرفع لك القبعة
طرح مميز على الدوام