الولايات المتحدة من الدول الحديثة نسبياً وتاريخها زاخر بلا شك بالحوادث المهمة والجسام المترابطة التي أثّرت في تاريخ العالم الحديث بأسره، إما ايجاباً في أحايين محدودة، وإما تأثيراً سلبياً مأساوياً بحق شعوب العالم في أغلب الأحايين، وخصوصاً بعدما باتت كواحدة من القوتين العظميين، إلى جانب الاتحاد السوفياتي السابق بعد خروجهما من الحرب العالمية الثانية منتصرتين على ألمانيا النازية، وأصبح يمتد نفوذها بعدئذ، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، إلى بلدان ومناطق عديدة من العالم، ثم أضحت القوة العظمى المتفردة تقريباً على قمة النظام العالمي الجديد بُعيد انهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الحليفة له في أوروبا الشرقية مطلع تسعينات القرن الماضي. ومن المفارقة أنه رغم كل هذا التاريخ السياسي للولايات المتحدة الحافل بالأحداث العالمية الكبرى التي شاركت في صنعها أو أثّرت فيها فإن شعبها عُرف بعزوفه عن الشأن السياسي العام، وبخاصة المتعلق بسياسات بلاده الخارجية. وحتى رؤسائه الذين يتم انتخابهم إنما تؤهلهم المؤسسات والشركات الكبرى التي تقف وراء تمويل الحزبين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي، وحملاتهما الانتخابية، وكأنها بذلك إنما تؤهل أو تصنع نجوماً سياسيةً مُعدة سلفاً لحرفة محددة أشبه بتدريب وتأهيل المديرين التنفيذيين لأي وظيفة كبرى ألا وهي «وظيفة» منصب الرئاسة، ولذلك غالباً عندما يترك الرئيس منصبه يكون أشبه بالمتقاعد عن العمل السياسي الذي قد يعتزله كلياً ويعود ليتفرغ لممارسة نشاطه الخاص به ماخلا السياسة.
وعلى سبيل المثال فقد أعلن أخيراً الرئيس أوباما الموشكة ولايته الثانية على الانتهاء عزمه على التفرغ لهواية لعبته المفضلة كرة السلة بعد ترك البيت الأبيض. والدراسات التي كُتبت عن ظاهرة سلبية أو ابتعاد المواطن الأميركي عن الحياة السياسية العامة كثيرة لعل أشهرها الكتاب الذي ألّفه قبل سنوات قليلة الكاتب الأميركي إيه. جي. ديون، E.J.. dionne.Jr بعنوان: «لماذا يكره الأميركيون السياسة؟»، «?Why Americans Hate Politics» والذي أوضح فيه ما ذهبنا إليه آنفاً أن السياسة باتت أشبه بالصنعة التي تختص بلعبتها فئة محدودة من الأميركيين، ويحمّل المؤلف المؤسسة الرسمية مسئولية عدم اكتراث فئات واسعة من الشعب بالسياسة، إنْ لتجهيل فئات واسعة منه بأهمية الاطلاع على السياسات التي يتبعها نظامه بما يُسهل تضليله سياسياً عبر إمبراطوريته الإعلامية، وإنْ لقنوط المتمتعين بالوعي السياسي من إمكانية اختراق المؤسسات الدستورية القائمة والمحصنة ضد تمثيل مصالح وحقوق أوسع الفئات الشعبية. على أن هذه اللامبالاة لها بطبيعة الحال عواقبها الوخيمة على الشعب الأميركي نفسه حينما يُسلّم مصيره لساسة نزقين مغامرين يمثلون مصالح أوليجاركية ضيقة من ممثلي الشركات الكبرى والمؤسسات المالية والتجارية، ولعل أخطر هذه العواقب زج بلادها في حروب مدمرة تعود بالوبال والكوارث على شعبها وإن على المدى البعيد، ولم يكن ماحصل في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 إلا نتيجة من نتائج تلك السياسات الرعناء في أفغانستان، دع عنك الخسائر الواسعة في العتاد والأروح التي تكبدها الجيش الأميركي أثناء احتلاله العراق.
على العكس من ذلك فإن الدول الأوروبية الغربية الحليفة للولايات المتحدة، وإن جمعها مع أميركا النظام الرأسمالي الليبرالي، فليس ثمة ما يبرر لامبالاة شعوبها بالسياسات الخارجية لحكوماتها، وقد رأينا ما جرّته تلك اللامبالاة تجاه الأزمة السورية عليها أخيراً من مذابح إرهابية كما حدث في باريس، وإن كانت كراهية الأوربييين للسياسة وعزوفهم عن الحياة السياسية أخف من الأميركيين، ذلك بأن الشعوب الأوروبية تتمتع بأنظمة ديمقراطية تتوافر فيها بدرجات متفاوتة، فرص التداول الحر للسلطة بين القوى السياسية المختلفة، فمؤسساتها المدنية وأحزابها السياسية المتعددة تتمتع بحرية أكبر من الولايات المتحدة التي تفتقر للتعددية السياسية الحقيقية وفرص تداول السلطة بين أوسع قوى سياسية ذات مصالح اجتماعية متباينة، وحيث يحتكر تداول السلطة منذ ردح من الزمن الحزبان التقليديان الكبيران المذكوران واللذان يمثلان مصالح فئة اجتماعية ضيقة من الشعب.
وقصارى القول: إن القوى والحركات الشعبية والنُخب السياسية في كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية الكبرى تقع على عاتقها في هذه اللحظات التاريخية الدقيقة الفاصلة مهام آنية ملحة لتوعية شعوبها بخطورة ترك السياسات الخارجية بأيدي حكوماتها كما يحلو لها، سواء استناداً للتمثيل البرلماني التقليدي القائم على الأغلبيات التي أفرزتها نسب ضعيفة أو متوسطة من المشاركات الانتخابية البرلمانية، كما في أوروبا الغربية، أم استناداً للتمثيل الديكوري المزيف المزمن لاحتكار الحزبين الكبيرين الجمهوري والديمقراطي، التناوب على السلطة في الولايات المتحدة، إذ إن شعوبها هي المتضرر الأول من عواقب لامبالاتها بتلك السياسات الخارجية، وبخاصة حينما تفتقر للحكمة والكياسة أو يشوبها التهور لعدم مراعاتها مصلحة وأمن أوسع الفئات الاجتماعية من شعوبها. أو على حد تعبير الكاتب الأميركي تا - نيهيسي كوتس TA- Nehisi Coats الذي فاز بجائزة الكتاب الوطني الأميركي عن كتابه القيّم «بين العالم وبيني»Between The World And Me» والذي قدّم له عرضاً وافياً ممتعاً الزميل جعفر الجمري ( الوسط / 23 من نوفمبر / تشرين الثاني الجاري ): «هذا وطنك... العالم الذي تعيش فيه وهذا هو جسدك، وعليك أن تجد طريقة للعيش مع كل ذلك». وإذا كان كوتس قال ذلك للفت أنظار شعبه الأميركي للعواقب الوخيمة لتجاهل السياسات الداخلية لحكوماتهم المتعاقبة إزاء التمييز العنصري في المجتمع وداخل مؤسسات الدولة بحق السود، فضلاً عن القضايا الداخلية الأخرى التي ما برح الشعب الأميركي يعاني منها فإنها تنطبق بنفس الدرجة من خطورتها على السياسات الخارجية تجاه شعوب العالم الثالث وعلى الأخص شعوبنا العربية والإسلامية.
العدد 4833 - الإثنين 30 نوفمبر 2015م الموافق 17 صفر 1437هـ