قَدَر لبنان أن يظلّ بلد التعدديّة الخصبة مذهبياً ودينياً وفكرياً وإيديولوجياً، بلداً عرف الحلو والمرّ بفضل هذه الميزة فيه، عرف تارة الإنتاج الفكري الخصب وطوراً بعض التشدد والانغلاق من هذا الجانب أو الآخر وصل حدّ الحرب. وبين هذا وذاك أنتجت أرض لبنان شخصيات سعت رغم تمسّكها بانتمائها المذهبي أو الديني أن تجمع أهل لبنان على كلمة سواء هي حب الوطن والعيش المشترك فيه، بعيداً عن التجاذبات الطائفية الضيّقة، والتشاحن الديني الذي لا يمكن النأي عنه بعيداً إلا بإشباع روح المواطنة وترسيخ قيم التشاركية والتسامح في ظل التعددية التي تميز هذا البلد الجميل المعطاء. ومن أرضه برزت أسماء وأسماء من هذا الجانب أو ذاك، ونختار منها على سبيل الذكر لا الحصر شخصية «هاني فحص» عَلَماً من أعلام التسامح والسلام.
شكّل العلامة السيد هاني فحص (1946 - 2014) علامة استفهام عند البعض فاستشكل عليهم تصنيفه؛ فهو مثقف ذو أسئلة مزعجة، ورجل دين لا يتورّع عن نقد مذهبه من الداخل دون أن يخجل، بل يعتبر ذلك نقطة قوة في مسيرته الحافلة بالمنعطفات الخطيرة. ولد هاني فحص في قضاء النبطية بلبنان، ونال إجازة (بكالوريوس) في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الفقه في النجف.
وانشغل بهموم المذهب والوطن والأمّة العربية والإسلامية، وشيئاً فشيئاً، صار أديباً وكاتباً ومؤلفاً معروفاً وناشطاً في المجتمع المدنيّ، وداعية حوار بين الأديان. صدر له ما يربو عن 13 كتاباً مطبوعاً، منها: خطاب القلب، مشروعات أسئلة، في الوحدة والتجزئة، ملاحظات في المنهج، الحوار في فضاء التوحيد والوحدة، المعرفة والاختلاف، مقاربات نقدية، ودروس من الحوار.
بعد فشله في الانتخابات النيابية في لبنان 1992، تفرّغ هاني فحص للحوار والكتابة والعمل الفكري والثقافي، وأسّس مع سمير فرنجية (المؤتمر الدائم للحوار اللبناني)، كما ويعتبر فحص من الأعضاء المؤسسين للفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، وكذلك من المؤسسين (للقاء اللبناني للحوار)، ولطالما عمل على إعادة بناء الجسور بين الشيعة والسنّة، وهو العضو في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. كما كان عضواً في الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، وكذلك في منتدى الوسطية في عمّان أيضاً، وعضو مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات الخيرية الثقافية.
تتوفّر تجربة العلامة السيد هاني فحص المحلية والعربية والإقليمية على قدر كبير من الغنى الثقافي والاجتماعي والديني. فقد كان الهاجس الأوّل للسيّد هاني، تحقيق التواصل بين أطياف المجتمع اللبناني، وما عمله ضمن المؤتمر الدائم للحوار اللبنانيّ سوى محاولة جادة في سبيل التقريب بين الطوائف الخارجة من الاحتراب في إطار إشاعة ثقافة قبول الآخر والتواصل معه وذلك للاستفادة من التجارب المريرة للحرب اللبنانية .
كان فحص حركياً يتنقل من جمعية الى أخرى، ومن منطقة لبنانية إلى أخرى، ومن بلد عربي إلى آخر داعياً إلى تفعيل قيم المواطنة وخاصة منها العيش المشترك؛ لذا فقد تنقل بين بلدان الخليج العربي (الإمارات والسعودية والبحرين) محاوراً العلماء والفقهاء ومخاطباً عامة الناس بأسلوبه الشيق البسيط مبرزاً قدرة فائقة على الطرح السلس للموضوعات والسهولة التي يمكن بها فهمها. كما زار العراق والأردن، وفي مصر حاور الأزهر الشريف. وحيثما حلّ كان يحاول تمتين أواصر الروابط الاسلامية وتحصينها من الاختراقات الثقافية والاجتماعية. ولم يقف في حواره مع المسلمين، بل تنقل إلى «أربيل»، حيث وجد أرضاً خصبة للحوار مع الأكراد واليزيديين والمسيحيين من كلدان وآشوريين فجالسهم وحاورهم.
لقد كان السيد هاني فحص صديق الجميع كرّس حياته للتواصل مع من يختلف معه ديناً ومذهباً ووطناً في سبيل تعميم ثقافة العيش المشترك والتسامح والسلام، وممّا يُؤْثَر عنه قوله عن أصدقائه: «أجمل ما فيهم أنهم لا تجمعهم طائفة ولا طبقة ولا قومية ولا كيان ولا مزاج ولا حساسية».
إنّك إذا أردت أن تفهم التسامح فاقرأ ما كتبه هاني فحص في جريدة («النهار» اللبنانية بتاريخ 14 يوليو/ تموز 2002) «إنّ الإنسان مَعنيٌّ دائماً بالبحث عن شروطه... والآخر شرط الذات. ومن أراد أن يحقق ذاته فلابد أن يبحث عن الآخر في ذاته، وعن ذاته في الآخر، تعزيزاً للذات والآخر في الذات والآخر».
بعد وفاته قيل فيه الكثير؛ فقد أبّنه بعضهم بقوله: «فقدنا وجهاً بهيّاً رائعاً وعقلاً منوّراً رائداً، فهو الداعي إلى الاعتدال والعقل والحكمة والحوار، والعيش المشترك والانفتاح على المسيحية وقيمها وعلى الإسلام وقيمه». كما قيل عنه: «هاني فحص سيد الحوار والتلاقي، صاحب القلم النابض بالقلق المعرفي والتوتر الدائم، أدرك جمالية التعددية، فلم يستطع إلاّ أن يكون ذاتاً في آخر».
ربّما من أجمل ما نختم به قول الراحل نفسه :»كل شراييني وأوردتي نظيفة من التعصب وأتعامل مع الآخرين على أساس فردي، وأحمد الله على نعمة أنّ هناك جيلاً من الشباب الدرزي والمسيحي والسني والشيعي يتعامل معي، كما أني أحدهم وبمستوى روحي عالٍ».
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4833 - الإثنين 30 نوفمبر 2015م الموافق 17 صفر 1437هـ
شكرا
مقال فيه حسن اختيار وإتقان في الطرح
هو ذاك
لقد كان السيد هاني فحص صديق الجميع كرّس حياته للتواصل مع من يختلف معه ديناً ومذهباً ووطناً في سبيل تعميم ثقافة العيش المشترك والتسامح والسلام، وممّا يُؤْثَر عنه قوله عن أصدقائه: «أجمل ما فيهم أنهم لا تجمعهم طائفة ولا طبقة ولا قومية ولا كيان ولا مزاج ولا حساسية».
ما أجمل قوله
كل شراييني وأوردتي نظيفة من التعصب وأتعامل مع الآخرين على أساس فردي، وأحمد الله على نعمة أنّ هناك جيلاً من الشباب الدرزي والمسيحي والسني والشيعي يتعامل معي، كما أني أحدهم وبمستوى روحي عالٍ».
احسنت ..
ذكرتنا بالسيد وبمقابلاته وهي بمثابة دروس راقية عالية الجودة فهو مدرسة لوحده رحمة الله عليه .
احسنت
احسنت اختيار الشخصية، واجدت الطرح. نحتاج الى المزيد والمزيد لعلنا نصحو من غفلة التعصب ونخرج من وحل الطائفية البغيض المدمر.