أدى العنف الذي استهدف المدنيين في العاصمة الفرنسية إلى سيول من الدماء. المشهد العبثي والمحزن جاء بعد حادثتين: الأولى التفجير الذي وقع في الضاحية الجنوبية واستهدف مدنيين لبنانيين معظمهم من الطائفة الشيعية، والثانية إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء. يفتح هذا العنف الباب للمزيد من الكراهية في منطقتنا وفي العالم. ما وقع في باريس بالتحديد عنى عملياً أن تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) مستعد لمتابعة الطريق الذي بدأ مع «القاعدة»، وأن طموحه في الجهادية العالمية لا يقل عن طموح «القاعدة»، وهو في الوقت نفسه يعكس حالة العنف السائدة في منطقتنا على كل صعيد. إن قتل المدنيين في صورة عشوائية في قلب العاصمة الفرنسية وفي قلب بيروت وفوق سيناء يستحق كل إدانة لاستهدافه الأبرياء، وهو في هذا بسوء دموية الأنظمة الاستبدادية كما والغربية التي تمارس العنف بحق المدنيين في سورية والعراق ودول ومجتمعات عربية أخرى. في الوقت نفسه، تتحمل فرنسا والغرب مسئولية كبيرة عن ترك دول منطقتنا كسورية والعراق وبقية الشرق وسط أنهار من الدماء. فمازال الغرب يحلم بحرب على الإرهاب (تقتل الكثير من المدنيين) تحاكي حرب 2001، ولا يزال يعتقد أن عقد صفقات مع الذين سببوا كل هذا العنف في الجانب النظامي (الأسد مثلاً) يشكل مدخلاً لتطويق الإرهاب. مازالت المشكلة الأساسية في منطقتنا مرتبطة بالاستبداد وثقافته وبالديكتاتورية ومصادرتها حقوق الشعوب وحرياتها وبأثر كل هذا على الناس والمجتمعات والأفراد وسلوكهم بل وعنفهم وتطرفهم. سيبقى كل هذا مع احتلال فلسطين هو المصدر الأول للعنف الذي يحيط بمنطقتنا.
كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها هجوم باريس الدموي وهجمات «داعش» ضد أهداف مدنية في بيروت وسيناء. فسياسة «داعش» متناقضة مع نفسها. إذ كيف لتنظيم يخوض كل هذه المعارك الجانبية أن ينتصر في مشروع بناء «دولة»؟ ولو أراد «داعش» أن يحقق فعلاً هدفه لما ضرب في قلب فرنسا. وقد يكون الهدف هو الانتقام، لكن الانتقام لا يؤسس إلا للمزيد منه ولا يؤدي لتحقيق أهداف السياسة؟ وقد يكون الهدف هو فرض الانسحاب على فرنسا والغرب من سورية والعراق، ولكن هذه الضربات الدموية ستؤدي في المدى المنظور إلى مزيد من التورط الفرنسي والغربي ومزيد من الضحايا من المدنيين في المناطق التي يسيطر عليها «داعش»، وهذا بدوره سيعمم الحالة الدموية. ربما يريد «داعش» أن ينتقم من اللاجئين السوريين الذين تركوه وغادروا أراضيه ولم يقفوا معه وفضلوا اللجوء إلى الغرب وذلك بجعلهم يخضعون لقوانين متشددة حول إقامتهم في الغرب؟ وقد يكون هدف الهجوم الدموي جلب مزيد من التدخل الدولي إلى المستنقع السوري لموازنة كل تدخل آخر؟ الواضح أن «داعش» بطريقته الراهنة سيوحد أعداءه ضده كما سيزيد من عددهم وحشدهم. كما تعلمنا السياسة أن من الصعب أن ينجح عمل مسلح بلا مضمون وهدف سياسي واضح. ألا تخدم هذه الأعمال كل سياسة غربية موجهة سلباً تجاه المسلمين؟ سيستمر السؤال: كيف يستفيد «داعش» من عمليات كهذه؟
في تاريخ الشعوب حركات عنف كثيرة، ولكن الكثير منها اتبع سياسات وتكتيكات كان هدفها كسب الأصدقاء وشق الأعداء. الفيتناميون على سبيل المثال، وفي أسوأ مراحل حرب الولايات المتحدة الاستعمارية في فيتنام، لم يضربوا حتى لمرة واحدة على الأرض الأميركية. يبدو أن الفيتناميين كانوا أكثر تفاؤلاً بالمستقبل وأكثر ثقة باليوم التالي. فبالرغم من استباحة الولايات المتحدة بلادهم، إلا أنهم عرفوا كيف يتجاوزون المطبات القاتلة لقضيتهم. لقد دمرت أميركا فيتنام وأحرقتها من شمالها لجنوبها، ومع ذلك بقيت جبهة التحرير الفيتنامية على تركيزها الهادف لتحرير فيتنام وهزيمة الولايات المتحدة. بل سعى الفيتناميون لشق الموقف السياسي داخل الولايات المتحدة وكسب أصدقاء من وسطها السياسي والشعبي. وبالفعل انتقل الشعب الأميركي في الستينات والنصف الأول من سبعينات القرن العشرين إلى صف إيقاف الحرب والانسحاب والتعاطف مع شعب فيتنام. هذه عوامل أدت إلى هزيمة الولايات المتحدة وانسحابها الكامل عام 1975.
نجد مثلاً في تاريخ العنف أن اليعاقبة الفرنسيين في زمن الثورة الفرنسية كانوا يرون أن ثقافة الدم هي وسيلة وطريقة للتعبير، كما أن الخمير الحمر من بين مهمشي التاريخ الحديث سعوا إلى تعميم ثقافة الدم في كل زاوية في كمبوديا. التاريخ مليء بحركات دموية برزت من صفوف أطراف مهمشة ومستضعفة كما حصل مع حركة كرومويل الدينية في القرن السابع عشر. لكن في التاريخ الإنساني لم تتطور فرنسا إلا بعد تصفية اليعاقبة، كما أن العالم كله واجه الخمير الحمر وهزمهم لمصلحة تسوية سياسية لكل كمبوديا، وحتى حركة أوليفر كرومويل بكل مغالاتها هُزمت مقابل التطور السياسي الذي عمّ بريطانيا بعد ذلك.
على القوى الدولية والإقليمية الساعية لإيقاف إرهاب «داعش» أن تتعلم من التاريخ، فإرهاب الدول والأنظمة يجب أن يتوقف، ولا بد من أن يكون ذلك ضمن تسوية عادلة وجادة مع البحث في مسببات بروز «داعش». يجب أن لا نتصرف كأننا لا نعرف كيف خرج «داعش» من رحم العنف والتهميش في كل من العراق وسورية! فالحرب على الإرهاب لن تنتصر في ظل تهميش فئات كبرى أو في ظل قصف فرنسي وأميركي لقواعد «داعش» من دون تصدّ جاد من قبل هذه الأطراف الدولية لأساس الظلم الذي تشعر به فئات سنّية كبيرة في كل من العراق وسورية. يجب العودة إلى جذور الثورة السورية في عام 2011 وطبيعة المطالب التي حركتها، وجذور الكارثة العراقية منذ عام 2003. فمن دون حل سياسي مقنع ورؤية إنسانية تتجه نحو الحواضن الاجتماعية في سورية والعراق ستبقى المشكلة تتمدد وتأخذ أشكالاً مختلفة.
شعوبنا في مرمى نيران الغرب من جهة وفي مرمى نيران أنظمتها كحال السوريين والعراقيين وغيرهم، كما أنها في مرمى نيران «داعش» الذي يسيء تمثيل حقيقة موقفها. كل شيء يختلط مع نقيضه في مشهد مدمر للإنسان وللحياة. فسياسة «داعش» بصيغتها العنيفة في مناطق حكمه وفي العالم تزيد الضغوط على الشعوب العربية، أكانت تلك الشعوب في الغرب أم في العراق وسورية، ولكنها في الوقت نفسه تثير كل الأسئلة دفعة واحدة، فـ «داعش» وأعماله بدأت تبدو أكثر تمدداً من «القاعدة»، مما ينذر ببروز من هو أخطر من «داعش» بعد إضعافه. من هنا ضرورة التصدي للمشكلات العميقة التي تعاني منها منطقتنا والتي تتلخص بالاستبداد والظلم من جهة وضعف الحقوق والقيم الإنسانية من جهة أخرى.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4822 - الخميس 19 نوفمبر 2015م الموافق 06 صفر 1437هـ
و اين الوه..... في المقال؟
الكاتب جعل السبب هو ظلم السنة في العراق و سوريا!!! و لم يذكر ان ما يحصل سببة الرئيسي هو التكفيريين و استغلالهم من الغرب و الصهيونية و الانظمة الفاشية