العدد 4821 - الأربعاء 18 نوفمبر 2015م الموافق 05 صفر 1437هـ

افتراض النوايا... أقصر الطرق إلى محاكمتك!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في اللغة نقف على التعريف الآتي للنيَّة: تَوَجُّهُ النفْس نحو العمل. لكنها تأخذ منحى خطيراً، حين تكون محصِّلة ذلك العمل إيذاء بشر، والنيْل من كرامتهم، وتدمير وتفتيت علاقات، أو المساس بقيمتهم، والتعامل معهم باعتبارهم عدماً، أو بمرتبة الأشياء المُهمَلة غير ذات القيمة. وعلى مقربة من هذا المعنى، جنوحاً، وتجاوزاً، وتطاولاً، واعتداءً يحكمه المزاج والتشفِّي، ثمة من يحاول الدخول إلى عقلك ليفهمك. كي يقترب منك أكثر... كي يحبَّك... وكي يحرص عليك أيضاً، وأحياناً لأنه يخاف عليك. يخاف عليك من نفسك. من الذين أنت مطمئن لهم، وقد تجد نفسك يوماً أحد ضحاياهم، بتلك الطِيبة، وحسن الظن، الذي كثيراً ما يكون هو التهْلكة، وليس الإلقاء بِالنَّفْس إلى التهلكة فحسب.

بعض يفترض نواياك، وهذه المرة لأنه يخشى منك على نفسه، وإن كنتَ أعزلاً، لا تجد في إيذاء سواك صلاحاً لك، بل هو دمار لها. يفترض نواياك. يشكِّلها، يحدِّدها، وهو بذلك يتوهَّمها في المحصِّلة النهائية. لا يرى حاجة إلى الاقتراب من عقلك ومحاولة فهمك. يجد في ذلك مضيعة للوقت. أقصر الطرق إلى محاكمتك... إدانتك... إقصائك... وفي مراحل أخطر: التخلُّص منك، هو العبور إليك من خلال النوايا. ومن دون شك، انطلاقاً من نوايا مريضة مسبقة.

تلك العيِّنات من البشر ليست كائنات افتراضية، نُوجدها في ساعة تجلٍّ، أو أوقات أوهام ووساوس تحاصرنا لسبب أو آخر.

على صعيد الممارسة والشاهد، والتجربة التي يتم تعميقها يوماً بعد يوم، يلتقي في ذلك الإجراء اللإنساني المريض والخطير، دول وأفراد. الآثار والنتائج تتباين، باتساع الأضرار والدمار الناتج عن موقف مثل ذاك تتخذه دول، ومحدوديته في الموقف الذي يلجأ إليه الأفراد، وحتى الجماعات، ضمن محيط أو تجمُّع بشري يظل محدوداً؛ وإن لم ينفِ خروجه على الفطرة، والذوق، وحتى ما تبقَّى من عقل.

لا يمكن للاجتماع الإنساني أن يكون مُحصَّناً ومُنسجماً مع نفسه، ولن يكون قادراً على الالتفات إلى شئونه وقضاياه المُلحَّة، ولن يكون قادراً على الانكباب على درسه في المعرفة والتنمية وآفاق الإبداع، مادام منشغلاً بتلك الأكوام من الأمراض التي ينطلق منها لمحاكمة نوايا الآخرين. ثم إنه لا أثر لمجتمع إنساني في ظل عيّنات «بشر» أو «دول» كتلك. يظل أطلالَ مجتمع وأثراً بعد عين!

في ذلك الانشغال تأجيل وتعطيل للطاقات التي يمكن للعقل البشري أن يكون منشغلاً بها، تحسيناً للحياة، وللبيئة التي يتواجد ويتحرَّك فيها الإنسان. مثل ذلك الاشتغال أو الانشغال على النوايا، كونها لا تخضع للمنطق، مع اصطدامها بالعقل، والوظائف التي يكون فيها الإنسان واعياً، من خلال تسخير وتوظيف أدواته ومداخله في نظره وتعريفه للشخصية والتفكير والجدل والذاكرة والذكاء والتحليل، لا يُرجى منه «صالح»، كونه انطلق أساساً من «الطالح» والخطأ، باتِّكائه في كثير من الأحيان على العدم والوهم والتهيُّؤات، وفي أحيان كثيرة، يكون مبعثه التربُّص والاستهداف، ولا شيء غير ذلك، لأسباب تتعلق بالتباين في الرأي، الموقف، الخيار، عدم الخضوع والارتهان لجهة ما.

ما يحيل الحياة إلى جحيم وكارثة تتطاول وتمتدُّ، هو تكريس سياسة الحكم على، ومحاكمة النوايا كجزء مساند لتنفيذ «قوانين» يتم تكييفها وتنقيحها بحسب مقتضيات حاجة طرف على حساب التضييق على طرف آخر.

ولا جديد في الأمر القول، إن أشخاصاً... جماعات... دولاً، لا تجد سوى خيار محاكمة نوايا المتباينين معها، والمتقاطعين معها في فهم قيمتهم كبشر، ووعيهم بالدور المنوط بهم، يعانون/ تعاني من مأزق وجودي، تظل تتوهَّم أن الطريق إلى وضع حدٍّ له هو بممارسة كتلك، تغلق كل أفق لفهم وحوار وتعاطٍ إيجابي في تلبية نداء الفطرة، قبل تلبية أصوات وجماعات ضغط تُمارس دوراً هنا، وتشاغب هناك.

ثم إنه بإجراء وممارسة محاكمة النوايا، لا درس ولا قيمة يمكن إدراكها بالاتكاء على الوهم والعدم، في أوساط أفراد... جماعات... دول تظل تتوهَّم أن لها عقلاً وقوانين تحتكم إليها، وواقع الحال ألَّا عقل يحترم نفسه باتباع ذلك الإجراء كمحكِّم يضمن اطمئناناً في الوجود واستقراراً، ولا قانون يُمكن أن يتم الاطمئنان له أيضاً بمحصلات أحكام هي نتاج الإيمان بتكريس محاكمة النوايا.

وبالعودة إلى تعريف النيَّة في اللغة بأنها «تَوَجُّهُ النفْس نحو العمل»، نحن أمام نماذج من الشمولية التي تنسحب على الأفراد كما الدول، كل همها تحقيق أمنها «الخاص» ولو على حساب زعزعة أمن الناس... المجموع البشري في المحيط الواحد، والذي من المُفترض به أن يكون متعايشاً مع التعدد فيه والتنوع؛ إذا كان ثمة عقل لا اضطراب فيه ولا غياب، ولا عمل يُمكن أن يُعتدَّ به بالنتائج الكارثية التي تتمخَّض عن حقيقة تلك الممارسة. العمل الذي يعني الحركة والحيوية؛ والنتائج التي تأخذ بيد الإنسان إلى التقدم خطوات وأميالاً؛ لا نكوصاً أو تراجعاً؛ إذ لا حركة في مشاريع تجميد الدم في العروق؛ ولا حيوية بارتهان ومحاكمة البشر على نواياهم!

محاكمة نوايا البشر هي باختصار: هروب من محاكمة نفوس أصحابها؛ وهروب من تلمِّس العلاج أيضاً لأمراض لها أول وليس لها آخر.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4821 - الأربعاء 18 نوفمبر 2015م الموافق 05 صفر 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 12:42 ص

      اسؤ الناس

      سواء كان الزوج او احد الاقارب اذا كان يحاسبك على كل كلمه وحركه بقصد او بدون قصد متعب جدا العيش معهم لان عليكان تكون شخص ثاني امامهم تراقبلاقوالك حتى لا يضنوا الضن السؤ والا حكم اعدام ...

    • زائر 1 | 9:11 م

      افتراض النوايا .. أقصر الطرق إلى محامتك !

      نعم ، بالضبط ما يحصل هنا ! بالأخص ما تم مع الأستاذ إبراهيم شريف و سماحة الشيخ علي سلمان وناس كثر !! كأنه يفتح قلبك ويقرأ ما في باله هو ، وما في فكره هو ، ويلبسك القضيه بيسر وسهوله !

اقرأ ايضاً