الفساد المالي والإداري وحصول المخالفات المالية في المال العام (ما تملكه الدولة) في الأنظمة السياسية ذات المسحة الدكتاتورية المغلقة مما لا يثير كثيرا من الاستغراب، لكن الحيرة هنا في البحرين وبعد صدور الأرقام والحقائق عن الهيئة العامة لصندوق التقاعد وهيئة التأمينات الاجتماعية هو أن ذلك التعامل والمخالفات لم تكن مع أموال الدولة والأموال العامة وإنما مع أموال الإيداع والاشتراك التقاعدي والضمان الاجتماعي للكثرة الغالبة في هذا البلد.
فمن أصغر عامل تنظيفات في أية شركة صغيرة وحتى أكبر مدير تنفيذي له كل الحق الأخلاقي والقانوني للمطالبة بمحاسبة المسئولين عن هذه المخالفات. هذا ملف قد فتحه مجلس النواب بصفته ممثلا عن الجموع الغالبة من هؤلاء المودعين في أقل اعتبار، وأظن أنه سيكون كالوسام الشرفي على صدر من تبنى هذا الملف إن هو نجح في ايصال المشوار التحقيقي الى منتهاه.
فإن كنا نعيش في دولة القانون والشفافية فلا نتوقع أي تراجع عن هذا الملف، فالقانون هو القانون والمجال للمحاباة خصوصا مع تعلق الأمر بأموال الناس ومقدراتهم ومودعاتهم المالية، وإلا أمن المعقول، وذلك كغيض من فيض مما ذكر في ذلك التحقيق، أن ينخفض عائد الاستثمارات للهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية وخلال عام واحد من 33 مليون دينار (انتبه دينار وليس دولار) في العام 2001 إلى 6,7 ملايين دينار في العام 2002 (صحيفة «الوسط»، العدد 473) أي ما يعادل حوالي 20 في المئة فقط من عوائد العام السابق! أعتقد أن بصمات الخلل واضحة في هذه الأرقام، أو إن أحسنا الظن فهي الكفاءة المتدنية جدا لإدارة الاستثمار والمسئولين عن أدائها، كل ذلك يحتاج إلى مساءلة والاقتصاص ممن تسبب في هدر وتبديد أموال الناس.
لا يسعني إلا أن أشد على أيدي أعضاء لجنة التحقيق بمجلس النواب وأؤكد ضرورة الالتفاف التام عن المطلب المبدئي في إخضاع المتسببين للتحقيق والمساءلة العلنية وإيصال الملف لنهايته. كذلك لا يسعني في هذه الكلمة المساندة سوى أن أهنئ اللجنة على هذه الخطوة المهمة وإن كان ذلك لا يمثل سوى خطوة أولى في بداية هذا المشوار الطويل. ومن هنا تتضح أهمية الاقتراح برغبة الذي تقدمت به جمعية المنبر الوطني الإسلامية بشأن كشف الذمم المالية للمسئولين في الدولة، فهذا الملف يعتبر من الملفات ذات الأولوية يضاف إلى الملفات الساخنة الأخرى (التمييز بين المواطنين والتجنيس).
التحدي الأكبر في هذا الملف الآن هو مدى استعداد الحكومة والسلطة التنفيذية للتعاطي مع هذا الملف والتجاوب معه ومع تداعياته. كثيرون ممن أعرف من دعاة المقاطعة للإنتخابات السابقة والدخول في هذا المجلس «يجزمون» بعدم تجاوب السلطة التنفيذية وخصوصا إذا تعلق الأمر بطرح الثقة.
من جهة أخرى فإن الموقف المغاير من قبل السلطة التنفيذية والتجاوب مع اللجنة وتداعيات التحقيق سيكون بمثابة إثبات لما راهن عليه المراهنون على المجلس والدخول في اللعبة السياسية كما خاطها وهندسها صاحب القرار في هذا البلد.
مرة أخيرة نود التأكيد على وجهة النظر «الحقوقية» في الموضوع وبعيدا عن أية «ألاعيب سياسية» وأن هذا الموضوع يتعلق بحقوق الناس وموجوداتهم التي قد أودعت أمانة في أيدي مسئولي هيئتي التقاعد والتأمينات وأنه لا يمكن التفريط في هكذا حقوق.
ويبقى السؤال: هل تقبل الحكومة والسلطة التنفيذية في مملكة البحرين هذا التحدي الصعب؟ سؤال ستجيب عليه الأيام القليلة المقبلة
العدد 482 - الأربعاء 31 ديسمبر 2003م الموافق 07 ذي القعدة 1424هـ