الانتساب والانتماء إلى طائفة أو دِين، أي طائفة أو أي دين ليس تهمة أو جريمة. ليس ميثاق الأمم المتحدة هو من سبق إلى ذلك. الإسلام العظيم أقرَّ وثبَّت ذلك الحق، مع توافر أدوات الحماية والحصانة ضمن علاقات تنظم الممارسة، وتفتح لها أفقاً وحرية اختيار، وتنص على تجريم وتحريم الإرغام أو الإكراه في هذا الباب.

مع المتغيرات التي طالت تنظيمات تؤصِّل للحقوق والواجبات، أصبح النظر إلى الطوائف، والعقائد الأخرى، غير ذي بال ولا يستحق الالتفات هذه المرة لا إلى ميثاق الأمم المتحدة المتعلق بحقوق الإنسان، ولا إلى الصداع النصفي الذي تسببه بعض المؤسسات والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان؛ بل تجاوز الأمر في بعض البيئات التي ينتسب إليها أكثر من مليار ونصف المليار مسلم في العالم، إلى عدم الالتفات وتجاوز أهم الأسس والقواعد والتشريع الصريح في أمر حرية الإنسان في معتقده، وعدم إكراهه على التحول إلى ما لا يعتقد به، في كثير أو قليل، أساسي أو ثانوي.

تعادل الطائفة والخطأ (الطائفة والخطأ: متعادلان)؛ بحسب الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير (ولد في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1694، وتوفي في 30 مايو/ أيار 1778)، الذي ذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية، ودفاعه عن الحريات المدنية؛ وخاصة حرية العقيدة، لا لكونها طائفة، بل بانحرافها في التعدِّي على ما عداها من طوائف، تحقيراً وتسفيهاً وتمييزاً وتهميشاً وتنكيلاً في كثير الأحيان، واحتكار الحقيقة والصواب ورضا السماء عنها دون سواها.

فولتير الذي عرف عنه دفاعه المستميت عن الحريات المدنية، وتركيزه على حرية الاعتقاد لا يمكن أن يضع «الطائفة» في تعادل مع الخطأ بالمعنى المباشر لمقولته؛ ما لم يَكُ يعني بالضرورة، ذلك التعصُّب المَرَضي الذي يصل حد الإلغاء بل والتحريض على القتل لمجرد أن طائفتك تتقاطع مع طائفة سواك، ومن هنا منشأ تعادل الطائفة مع الخطأ، بما تجره من عمى في النظر، واحتكار المعرفة بالله، وانتهاء القيم والمُثُل عند إحداها. وليس الخطأ هو نهاية المطاف فيما لو تفرَّع أي منا في نظره وفهمه للمقولة، بل ما هو أكبر من الخطأ بتحوله إلى فظاعات تصبح مع مرور الوقت جزءاً لا يتجزأ من العُرْف واستواء السلوك والأخلاق كما يتوهم أصحاب تلك الممارسة.

ولنا من الشواهد في عصرنا آلاف الأمثلة بممارسات هي مرصودة وموثقة على مدار الساعة. حزٍّ للرؤوس، غلْيِها، حرقٍ بالنار حتى الموت، دهْسٍ بالمدرعات، إباداتٍ جماعية، رميٍ من شاهق، اتخاذِ الرؤوس كرات يتقاذفها السفلة وقتلة الحياة، كل ذلك له مرجعيات تاريخية، وممارسات وشواهد أصبحت بمثابة نصوص وتقريرات مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وصار على الورثة والأتباع والمنتمين إلى ذلك النهج تعميق تلك الممارسة، والاجتهاد في الإتيان بما لم يأتِ به الأولون.

في حدود الاعتقاد، لا خطأ يمكن أن يطال المجموع البشري، أو ما هو أعظم منه وصولاً به إلى المجازر والتعدِّي في أبشع صوره؛ مادام المؤمن والمنتمي إلى طائفة يحصر اعتقاده في حدود علاقته بالله، واستجلاء المضيء والإنساني مما يعتقد، ولا اعتقاد حقيقياً يحترم ويقدر الإنسان يمكن أن يخلو من مضيء وإنساني. ما يأخذ بالعلاقة تلك في حدود تطرفها هو الانسلاخ عن حقيقة وبواعث ما يؤمن به، والقفز عليه، والإتيان بما يناقضه، بل ويناقض كل فطرة ربما يشترك في بعضها البشر والحيوانات على حد سواء.

البعض يتجاوز مرحلة الأخطاء تلك اتكاء على سياسات التمييز تجاه طائفة/ طوائف ترى حقاً مُؤيَّدة به في الاقتصاص ممن تراه مخالفاً لها، وعلى النقيض منها. ليطال التمييز كل شئون الجماعات المنتمية إلى الطائفة/ الطوائف تلك، متجاوزة التمييز إلى مرحلة تجد في إهدار حقوقها ودمائها فَرْضاً سماوياً على الوكلاء على الأرض أن يحرصوا على تفعيله!

في نموذج يظل محترماً من ذوي الأفهام والقيم والمُثل، نتمنى تعميمه فهماً ونظراً وممارسة، دون أن يعني ذلك عدم وجود ما يماثله، بل يتجاوزه في الطوائف الأخرى؛ لكنها شجاعة الرأي والوضوح في الخطاب من دون مواراة أو «تقية» كما يحلو للبعض اتهام خصومه بها. أعني به العلامة والمفكِّر اللبناني الراحل هاني فحص؛ دون أن يعني ذلك الاتفاق مع كل ما طرحه من آراء وتشخيص لقضايا وموضوعات مختلفة ومتباينة.

هاني فحص في تناوله للصراع الدائر بين السياسة والدِّين في العالم العربي وما نطرحه هنا يرتبط بممارسة البعض، مقابل أداءات أفراد في انقضاضهم على الدول مدفوعين بتحريض مصطنع ودخيل على حقيقة ومنهج اعتقادات طوائفهم الرصين سُئل: «من سيكون المنتصر في ذلك الصراع؟ ظل خياره أن تنتصر السياسة على الدِّين، ورؤيته تكمن في «أنه إذا ما انتصرت السياسة، بمعنى البرنامج وبناء الدولة والحوار بين المجتمع والدولة، فسيكون النصر للدِّين في الأخير؛ حيث يعود الدِّين إلى مكانته، ولا يكون مضطراً لإنتاج الدولة، فلو أنتج الدِّين الدولة، فَسَيُفسِدُهَا ويَفسُد بها، وإذا أنتجَته فسَتُفسِدُه وتَفسُد به، حقلان معرفيان وعمليان مختلفان يجب أن يتكاملا، ولا يجب أن يبني أحدهما الآخر، الحل هنا لن يكون سوى التنوير وإنشاء الدولة». لم تَكُ بيئة فولتير وقتها نموذجية وصحية حين انحاز إلى حرية العقيدة، وهاني فحص لم يَكُ ينتمي إلى جغرافية تغدق على مواطنيها الحقوق حد التخمة. فقط هو الموقف الشجاع الذي يتجلَّى في الرأي الصادم والجريء؛ ذلك الذي يمكن له أن يكسر مقولة تعادل الطائفة مع الخطأ بالممارسة. والممارسة بصدق.