ازداد الازدحام في الساحة البحرينية، الأخبار تتوالى تباعا، والتطورات والمتغيرات والتقارير تتلاحق من كل حدب وصوب. لايكاد المتابع للشأن العام في البحرين استيعاب تقرير مؤسسة (ستاندرد آند بورز) عن تصنيف الوضع الائتماني في البحرين (الذي انتقد عدم الشفافية في المالية العامة) حتى يصعق للمرة الثانية عن تقرير لجنة التحقيق البرلمانية في افلاس هيئتي التقاعد والتأمينات، ثم يفاجأ للمرة الثانية بتقرير مؤسسة ماكينزي الذي توقع أن يصل عدد العاطلين في البحرين نحو 60 ألف عاطل في غضون 10 سنوات.
وما لم يستوعب المتابع والباحث الاقتصادي منهج الاقتصاسياسي، ويدرك دور الأدوات/ القرارات السياسية في توجيه المسائل الاقتصادية، فإنه لن يتمكن من إدراك واستيعاب كل هذه التقارير ومدلولاتها ومؤشراتها. ومن الواضح أن التقارير تشترك في بعض الملاحظات وفي مقدمتها: مركز القرارات، وعدم الشفافية، وعدم اتباع الاجراءات الصحية، وهيمنة القرارات الفردية والاجتهادية، ما يعكس أيضا هيمنة السلطة التنفيذية، وتدخلها على يد وزرائها، في معظم القرارات الاستراتيجية والمالية في كل المؤسسات الحكومية والعامة، وتوظيف القرارات (لاسيما الاستثمارية) في غير محلها، أو بصورة غير مدروسة اقتصاديا، ولا تراعي الأبعاد الاستراتيجية السياسية والاجتماعية.
هذا الأمر يقودنا بالطبع الى التقرير الذي أصبح حديث الشارع البحريني، وهو تقرير لجنة التحقيق البرلمانية، التي تبحث في قضية افلاس هيئة صندوق التقاعد (التي تختص بتأمين تقاعد موظفي القطاعين الحكومي والعام وموظفي قوة الدفاع والحرس الوطني) وهيئة التأمينات الاجتماعية (التي تختص بتأمين تقاعد موظفي القطاع الخاص بمن فيهم أصحاب الأعمال المهنية الحرة). فلأول مرة في تاريخ البحرين يصدر تقرير داخلي ينتقد الحكومة ويوجه أصابع الاتهام بصورة مباشرة (وعلنية) الى وزير المالية الحالي ووزير العمل السابق (ووزير العمل الحالي وإن بصورة جزئية)، ويحمِّلهم كامل المسئولية عن التجاوزات المالية والادارية التي أدت الى إفلاس الهيئتين المذكورتين.
التقرير مهم جدا، فهو من ناحية: يتعلق بأموال عشرات الألوف من الموظفين والموظفات البحرينيين في القطاعين العام والخاص ويطرح تساؤلات بشأن مدى الكفاءة والأمانة لدى إدارة هذه الأموال، وما إذا كان الوزير أصلا يملك الحق في التصرف في أموال الناس، التي تم ادخارها في الهيئتين، وشطب ديون بملايين الدنانير عن هذه الجهة أو تلك. ومن ناحية أخرى: يأتي هذا التقرير في مرحلة سياسية جديدة برزت فيها آليات التمثيل الشعبي (البرلمان) وأدوات المساءلة والرقابة والاستجواب، كما برزت فيها مؤسسات الضغط السياسي وفي مقدمتها المجتمع المدني والجمعيات السياسية والحقوقية والنقابية، وتبلور خلالها مناخ سياسي شفاف وقوي وارتفع فيه سقف الحريات العامة، وبرز فيه صوت الرأي العام البحريني.
معالجة ملف هاتين الهيئتين سيكون مؤشرا مهما، على المستويين الاقتصادي والسياسي، وسيكشف عن عدة مدلولات لعدد من المسائل. فمن خلال ذلك سيتم اختبار حقيقي للبرلمان وآليات المساءلة والاستجواب فإذا نجح البرلمان في هذه المهمة الصعبة واجتاز الاختبار، فسيرتفع رصيد البرلمان والنواب وتزداد حجة «المشاركين» ضد حجج «المقاطعين» وفي مقدمتهم صاحب المشروع الاصلاحي نفسه، جلالة الملك، الذي شدد على ضرورة اتباع المؤسسات الدستورية وآلياتها في أي تغيير وتطوير. ومن خلال هذا الملف ستيبين لنا أيضا: مدى استقلالية السلطات الثلاث، ومدى تقبل السلطة التنفيذية لهذا التحول الكبير إذ تفقد هيمنتها على السلطة التشريعية، ويواجه وزراؤها أدوات المساءلة والاستجواب، تحت قبة البرلمان، من ممثلي الشعب، وتحت مرأى الرأي العام المحلي والدولي، بل سنكتشف هنا مدى استقلالية السلطة التشريعية عن الحاكم نفسه، ومدى قدرة النواب على تحمل أية ضغوط هنا وهناك، والتزامهم الأدبي والسياسي بالدفاع عن حق ناخبيهم
العدد 481 - الثلثاء 30 ديسمبر 2003م الموافق 06 ذي القعدة 1424هـ