قضيت وقتاً ممتعاً مع كتاب «صائدو اللؤلؤ» للكاتب والصحافي الفرنسي المغامر ألبيرو لوندر (1884 - 1932) والصادر العام 2007 عن إدارة الثقافة والتراث الوطني – البحرين والذي تفضل باهدائي اياه منذر الخور مترجم الكتاب والباحث البحريني القدير.
وقد عُرف منذر - قبل أن يختطفه العمل الحقوقي - واحداً من أبرز المترجمين البحرينيين عن اللغتين الانجليزية والفرنسية، وقد سبق أن ترجم كتاب «أرض النخيل» من الإنجليزية إلى العربية وصدر العام 1989.
وعلى رغم أنه ينحدر من حقل علمي مختلف، فقد حصل العام 1983 على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية – جامعة باريس إلا أن حبه للترجمة واللغات قاده لترجمة قصائد من عيون الشعر الفرنسي اختار منها 10 قصائد، اعتبرها الأقرب إلى الذوق العربي ونشرها في الصحافة المحلية في الثمانيات والتسعينات، كما ترجم عملاً فرنسيّاً آخر ينطوي على أهمية تاريخية خاصة بالنسبة لتاريخ بلدنا وهو عبارة عن دراسة عن «المسيحية في البحرين» نشرت في الصحافة البحرينية العام 1988، وتعتبر هذه الدراسة المصدر الوحيد عن تاريخ المسيحية في هذه الجزيرة الصغيرة، وقد شكلت مرجعاً للعديد من الدراسات والبحوث والمقالات عن تلك الفترة التاريخية.
كتاب «صائدو اللؤلؤ» يعد وثيقة تاريخية تطفح بالإثارة والكثير من التراجيديا، إنها رحلة محفوفة بالمفاجآت لرحالة فرنسي حاول ان يقترب من درب الآلام الذي كان يسلكه صائدو اللؤلؤ «المساكين» كما أحب أن يسمي أحد فصول الكتاب، لقد قصد موضعاً «تكسوه الأصداف ويكلله تاج الشرق، إنه الخليج العربي.. حيث ترقد على ضفاف مياهه الفيروزية إحدى الجزر أشبه بسلة أميرية تظللها قبة من السحب الوردية، إنها البحرين الشهيرة... الجزيرة الساحرة»، وكان يحدوه أمل بأن»يرسو عند مطلع فجر بنفسجي جميل على شاطئ البحرين» سالكاً دروباً لبلدان كثيرة «لقد تركنا بلدان البؤس والشقاء واقتربنا من جزيرة الغنى والثراء، يا مال!».
زيارة (ألبيرو لوندر) جاءت قبل سنتين فقط من اكتشاف أول بئر للنفط فيها، وذلك العام 1932 حيث بدأت صناعة النفط تستوعب أعداداً كبيرة من العاملين في صناعة الغوص بعد تدهور هذه الصناعة نتيجة الكساد الذي منيت به أسواق اللؤلؤ الطبيعي جراء مزاحمة اللؤلؤ المستزرع. ومن هنا تبرز أهمية الكتاب كوثيقة تؤرخ لمرحلة فاصلة من التاريخ الاقتصادي لمنطقة الخليج.
والأهمية الأكبر لهذه الوثيقة تكمن في الرؤية الإنسانية الشاملة التي قدمها هذا الأوروبي المغامر لحياة الغواصين البائسة حيث لم ينظر لمهنة الغوص كصناعة أو تجارة أو مورد للثراء الفاحش، بل نظر إلى هذه المهنة الخطرة من خلال العواقب والآثار المدمرة التي تتركها على حياة ضحاياها وصحتهم. «في أعماق البحر يوجد شقاء أكثر من اللؤلؤ»، فهذا الفرنسي الجسور لم يكن سوى مغامر عنيد، وراغب متحمس في ارتياد المجهول واكتشاف حقيقة الأشياء عن قرب، وقد كانت حياته الصحافية مليئة بالسفر والمغامرة والاكتشاف والكتابة حيث كتب عن «القات» في جيبوتي وتعرض للقتل في البرازيل وقام بتغطية حروب البلقان والحرب العالمية الأولى كما جرّب مغامرة العيش مع صائدي اللؤلؤ في الخليج.
الكتاب كُتب بلغة روائية جميلة، وقد نجح المترجم في نقل الإحساس الجمالي الذي تنطوي عليه غنائية اللغة الفرنسية وتمكن من نقل الدفء الذي يشع من بين ثنايا النص بمهارة، ويذهب بك هذا النص الى قناعة - تؤيدها هوامش وتعلقيات المترجم التي زخر بها الكتاب - في أن الترجمة أكبر بكثير من عملية نقل حرفي آلي وجاف للكلمات من لغة الى لغة أخرى، إنها تأليف من نوع آخر، إنها تواشج جمالي وتعالق بديع وحوار مع النص واستدراك وتقويم له مع الاحتفاظ دائماً بأمانة النقل، ومن البديهي بأن ليس كل ترجمة ترقى إلى مستوى الاتقان، وكثيراً ما يخامر المرء الشك وهو يقرأ عملاً مترجماً بحرفية عالية أنه ربما كان يقرأ نصّاً كُتب بلغته الأصلية لا نصاً منقولاً عن لغة أخرى.
في وصف الأزرق الجميل الذي رآه يقول لوندر : «البحر فيروزي شفاف. وعندما أمعن النظر من خلاله، فأنا على يقين بأني سأرى المحار في الاعماق وهو يتثاءب فاتحاً فاه. ولم يبق سوى أن أمد يدي واختلس لآلئه».
لقد أبدى دهشته واستغرابه وألمه وامتعاضه بعد أن عايش حياة الغواصين ومعاناتهم، أولئك المعذبون الذين حكمت عليهم الأقدار بالأشغال الشاقة، وتكالب الأمراض، والأعمار القصيرة من أجل «اللؤلؤة» التي هي «مجرد إفراز للعاب قذر، ومادة عبثية للزينة، وفرح طفولي للنساء وعذاب قاس للرجال» كما يعبر.
«اللؤلؤ. انه الملك، والجميع في خدمته».
من دونه لا يوجد مال، ولا توجد واردات، ولا توجد رسوم جمركية... من دونه لا توجد تجارة ولا توجد مضاربات ولا يوجد استهلاك ولا خمسمئة سفينة مسجلة وتسعة عشر ألف غواص تصهر جلودهم شمس يوليو/ تموز ويصارعون أسماك القرش والشفنين البحري (اللخمة) تحت مياه البحر العميقة وهم يبحثون عن الأصداف المبتسمة بغموض.
لقد كتب يقول: «إنه أمر يبعث على الحنق والغيظ أن يتدفق أكثر من خمسة وعشرين نبعًا للماء العذب في البحر. وفيما لا يجد البشر على ظهر اليابسة سوى ماء مالح يشربونه»!
عزيزي ألبيرو... لم يتغير الكثير، مازلنا نشعر بلذعة الملوحة في حلوقنا، والذهب الأسود تتفجر ينابيعه الهائجة من تحت أقدامنا.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4805 - الإثنين 02 نوفمبر 2015م الموافق 19 محرم 1437هـ
موضوع جميل
وكذلك المقال .. لطيف انه ابتعد بنا عن السياسة و أخذنا في أعماق البحار و اللولو و في بحر الثقافة الواسع
استمر في هذا المجال الرحب و الخصب
شكرا لك
كانوا
ومازلنا
شكرا
شكرا لمرورك
تحياتي للكاتب
حبذا ان تقتطف جزءا يلخص حياتهم ومعاناتهم في البحر مع الشكر الجزيل
الافضل الاطلاع على العمل
شكرا ياصديقي .. مقترح جميل لكني أقضّل أن تطلع على العمل لتكتشف متعة قراءته. الكاتب
السلام
المقال عجبني الصراحه نشكر المترجم منذر.