أوضحنا في مقال سابق الفرق بين التعليم الأكاديمي والتدريب من حيث الأهداف والمهام وأدوات التنفيذ. وفي هذا المقال سنسلط الضوء على بيئة ومهام التدريب؛ كونه وظيفة مختلفة تمامًا عن وظيفة التعليم الأكاديمي. ومن أهم أوجه الاختلاف بينهما هو الارتباط الوثيق بين التدريب وإدارة الموارد البشرية المرتبطة بالمؤسسة الحاضنة لها.
فالتدريب المعني بخلق المهارات على مستوى مختلف المهن من خلال مؤسساته هو مزيج من ثلاثة محاور مترابطة، لا يمكن فصلها عن بعضها بعضاً، الأول هو التحليل الفني للمهام الوظيفية، ومقارنة متطلبات التأهيل المقرر لها بتلك التي تتوافر لشاغل الوظيفة، المحور الثاني هو التحصيل العلمي والتخصصي، أما المحور الثالث فهو التدريب في بيئة عمل المؤسسة من خلال منهجية تتكامل مع الوظائف المختلفة لإدارة الموارد البشرية.
لهذا السبب أوجدت المؤسسات الكبيرة مراكز للتدريب خاصة بها، كما كان الحال عليه في مملكة البحرين حينما كانت لوزارة الصحة كلية للعلوم الصحية مرتبطة بطبيعة خدماتها وتوجه برامجها لتتلاءم والمهام الوظيفية لمختلف الوظائف والمهن في الوزارة، وفقًا لمنهجية التحليل الوظيفي التي سنسلط الضوء عليها لاحقًا. كما كان لقطاع النفط نظام ومركز للتدريب عرف بـ «الأبرنتس»، أي التمهيد والإعداد لتلبية احتياجات القطاع من المهارات الوطنية المدربة بمستوى ومعايير عالمية. وكذلك الحال عليه بالنسبة إلى قطاعات أخرى، كالقطاع المصرفي ممثلاً في معهد المصرفيين، وقطاع العمل ممثلاً في معهد التدريب المهني، وقطاع الصناعة ممثلاً في كلية الخليج الصناعية، وقطاع الفندقة والسياحة ممثلاً في معهد البحرين للضيافة، إذ كانت برامج هذه المراكز والمعاهد مصاغة وفقاً لاحتياجات زبائنها في سوق العمل.
ففي قطاع السياحة والضيافة مثلاً، التابع إلى وزارة الإعلام آنذاك، تم تشكيل مجلس للإشراف على المعهد مكون من ممثلين من قطاع الفنادق ومكاتب السفر؛ للتأكد من تطابق برامج المعهد وطرق التدريب، ومؤهلات العاملين فيه مع احتياجات قطاع السياحة. ومثله كذلك في وزارة الكهرباء والماء إذ أنشئ مركز للتدريب لتلبية احتياجات الوزارة من الفنيين في مختلف التخصصات التي تتطلبها إدارة محطات الكهرباء وتحلية المياه، وفقًا لتكنولوجيا الشركات المصنعة لهذه المحطات.
من المعروف أن عملية التدريب السليمة تعتمد على منهجية تسمى التحليل الوظيفي التي بدورها تستند إلى منهجية توصيف عناصر الوظيفة بشكل دقيق، مستوحاة من عدة جوانب، منها جهة العمل، أو دليل المصنع أو صاحب الخدمة. لذلك وضع أسلوب علمي لكتابة التوصيف يعكس طبيعة العمل المخصص للوظيفة وفقاً لمعايير دالة يتقن تطبيقها المختصون في التنظيم وتوصيف الوظائف بإدارة الموارد البشرية.
ويشتمل التوصيف على المهارات والمعارف والقدرات المطلوب توافرها في شاغل الوظيفة. من هنا يأتي دور المختصين في التدريب للعمل مع المختصين في التوصيف الوظيفي، وفي إدارة التوظيف لتطوير مسارات التدرج الوظيفي والتطوير المهني لمسيرة شاغل الوظيفة أثناء حياته المهنية.
فمهمة التوظيف لا تقتصر على البحث عن الشخص المناسب (التوظيف) أو ما يسمى (ركروتمنت)، بل تستمر لتشمل التعيين (ستافنج)، أي متابعة مسار الموظف للترقي وتحمل مسئوليات وظيفية أكثر تعقيدًا وأعلى درجة مع مرور الوقت ضمن برنامج للتطوير يطلق عليه في بعض المؤسسات (موبيليتي ابورد) بما يعني الحركة أو السير نحو الأعلى.
يتضح من هذا العرض أن التدريب هو جزء من عملية إدارة الموارد البشرية، والتي بدونها لا يمكن أن تكتمل مهمة التدريب بصورة سليمة. فمركز التدريب هو المصنع الذي يتم فيه تزويد المتدربين بالمهارات والقدرات والمعارف في ضوء منهجية يتم وضعها بالتعاون مع أطراف ثلاثة، هي جهة العمل وإدارة الموارد البشرية التي تكون جهة تخطيط التدريب جزءاً منها وليس بمعزل عنها. ففصل هاتين المهمتين يجعل من التدريب عملية عشوائية وعامة وتفتقر الى المتطلبات الصحيحة لطبيعة عمل الوظيفة ومتطلبات التأهيل فيها.
لهذه الأسباب مجتمعة تُنشئ المؤسسات، وخاصة الكبيرة منها، مراكز تدريب خاصة بها لضمان حصولها على مهارات تتوافق واحتياجاتها الوظيفية. وهكذا يتم ربط التدريب باحتياجات العمل.
وفي مملكة البحرين تم نقل بعض مؤسسات التدريب من حاضناتها الطبيعية، كنقل كلية العلوم الصحية من وزارة الصحة الى جامعة البحرين. كما تم تجميد أو الغاء مركز التدريب في شئون الكهرباء والماء وأنشئت كلية البوليتكنيك كبديل عن معهد التدريب الذي كان تابعًا إلى وزارة العمل، وذلك في عملية مماثلة لكلية الهندسة بجامعة البحرين. ومثله ينطبق على كلية المعلمين التابعة إلى وزارة التربية والتعليم.
إن بعثرة مراكز ومعاهد التدريب المتخصصة بعيدا عن حاضناتها يضر بكفاءة مخرجاتها بالإضافة الى ما تسببه ازدواجية التنظيم هذه من تكاليف مالية باهظة لموازنة الدولة. وحتى لو افترضنا وجود منافع من هذا المنحى، فإن الأضرار على مجمل اقتصادنا الوطني تفوق أية منافع أخرى.
لقد توافرت لمملكة البحرين تجارب ناجحة في التنظيم والإدارة ساهمت في تطوير العنصر البشري اللازم للتنمية الاقتصادية. وقد تجسدت هذه الخبرات في كفاءة مؤسسات الإدارة العامة وحجمها المتماسك بفضل تجنب الازدواجية والتداخل وتجزئة المهام المترابطة. وقد تحقق ذلك وفقاً لمعايير التنظيم المتعارف عليها دوليًّا. إلا أن هذه التجربة الفريدة شهدت تراجعاً ملحوظاً في السنوات الماضية، لأسباب غير معروفة، تمخضت عنه تجزئة لمؤسسات مترابطة، ما أوجد حالة من التضخم العمودي والأفقي في الإدارة العامة.
وقد شمل هذا المنحى مؤسسات التدريب ليؤثر سلباً على خطط تطويرالعنصر البشري اللازم للتنمية الاقتصادية في بلادنا. وقد بدأت ملامح أضرار هذا المنحى واضحة في المساعي الأخيرة لإعادة تنظيم وهيكلة بعض الأجهزة التي تم فصلها مما يوحي بوطأة الازدواجية والتضخم الوظيفي على موازنة الدولة.
إن تطوير العنصرالبشري أساس للتنمية الاقتصادية؛ لكونه عنصراً من عناصر الإنتاج التي لا تنضب. من هنا وجب علينا إعادة النظر في هيكلة مؤسسات التدريب، مستلهمين ذلك من تجارب سابقة ناجحة لم تفصل هذه المؤسسات عن حاضناتها.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 4800 - الأربعاء 28 أكتوبر 2015م الموافق 14 محرم 1437هـ
نقل معهد البحرين للتدريب لوزارة التربية خطيئة
دمرت وزارة التربية و التعليم قدرات معهد البحرين للتدريب:
1. تناقص عدد طلاب المعهد من الآلاف الى المئات
2. الغاء برامج معتمدة عالميا مثل البكالوريوس التطبيقي
3. انحسار دخل المعهد من تدريب المؤسسات الصناعية و التجارية من ملايين الى دخل منعدم أو قليل
4. تدمير الهيكل الاداري و التدريبي للمعهد
5. استبدال الاداريين الاكفاء بأشخاص صغار في السن و عديمي أو قليلي الخبرة
6. مضاعفة أعداد الموظفين الأجانب أكثر من البحرينين