اشتكى قائلاً: أنا عاطل منذ سنوات، أعول أسرتي من علاوة الغلاء «100 دينار» وبما لا يبخل به إخوتي من نعم على رغم التزاماتهم المالية تجاه عوائلهم. أرغب في العمل والوزارة ترد على طلباتي المتكررة: لا وظائف لديها حتى في أعمال المقاولات والحفريات، فهذه الأعمال لا تعطى للبحرينيين؟!
قالت أرملة تسكن مع أسرتها في بيت متهالك، جدرانه متشققة، وتتسرب من سقوفه مياه الأمطار، زارتها جهات عدة لمعاينة المنزل، لكنهم غادروا دون رجعة. اشتكت من فقدان مصدر دخل ثابت غير المعاش الشحيح للأب المتوفى، وأسرتها لا تُمنح علاوة الغلاء ولا تعرف السبب؟! ابنتها الجامعية لا تحصل على منحة أو حتى إعفاء من الرسوم، وتعجز عن شراء الكتب فتضطر إلى استعارتها.
أما المتقاعد براتب «370 ديناراً» فيسدد منه قسطاً لوزارة الإسكان قدره «145 ديناراً» والمتبقي «250 ديناراً» سرعان ما ينفد مع الأسبوع الأول من كل شهر.
مواطنون غيرهم يشكون الغلاء وعاجزون عن تلبية احتياجاتهم وإصلاح أي أعطال في منازلهم أو تسديد التزاماتهم من تأمين للسيارة وخلافه، بعضهم مدينون للمصارف ولا يحصلون على فرص عمل لمدخول إضافي يسعفهم على تحمل الأعباء المتكاثرة. إن لم يكن هذا «الفقر المتوحش» فماذا يكون؟!
البربارة والفقر
في كتابه «ثورات بلا ثوار، عن رياض الريس، بيروت 2014» يحلل «فواز طرابلسي» ثورات الربيع العربي، ويرى أن جذرها يرتكز على عقود من حكم أنظمة جمعت الاستبداد والفساد والاستغلال والإفقار وتعميق الفوارق الطبقية، وخلفت نسب بطالة غير مسبوقة بين الشباب العربي، كما يعود بالقارئ في فصل تجليات العنف إلى الحرب الأهلية اللبنانية ومسبباتها، ويقاربها بحكاية «عيد البربارة» وعلاقته الوثقى بالصراع الطبقي، ترى ما علاقة «عيد البربارة» بالفقر؟
بداية «البربارة» كما عرَّفها، قديسة شهيدة مسيحية أبدت بطولة نادرة في مقاومة أعداء الدين، ودافعت عن إيمانها ضد الرومان وضد أبيها الوثني، مضيفاً أن جبل لبنان يحتفل سنويّاً بعيد «البربارة» في (الرابع من ديسمبر/ كانون الأول)، وفي عشية الاحتفال يطوف الشبان على المنازل متنكرين بوجوه مسودّة أو أقنعة، ملابسهم رثة ويقودهم «العرنديس» بوصفه عميد الطواف أو قرين «ملك الكرنفال» الذي يسير وراءه شبان مطبّلون مزمّرون ينشدون سيرة القديسة، فيجود أهل البيت عليهم بالحبوب والنقول والفواكه المجففة والحلويات وأحياناً ينقدهم المارة بالدراهم.
يرى «طرابلسي» أن «لعيد البربارة» دلالة اجتماعية مباشرة مرتبطة بالعمل. فالقديسة في المخيال الشعبي شفيعة العمال والحرفيين وجميع من يمارس أعمالاً شاقة وخطيرة من عمال البناء ومقالع الحجارة والمشتغلين بالبارود والمتفجرات وما شابه. وعيدها بهذا المعنى حفلة تسوّل جماعية يطوف فيها الفقراء على بيوت الأغنياء والموسرين يتقاضون الإحسان شرعاً ومن دون حياء.
هنا يعود بنا القهقرى تاريخيّاً، فيجد أن طقس الاحتفال قد هاجر مع نمو الهجرة الريفية إلى بيروت في الأربعينات والخمسينات، وبدأ يتحوّل ويكتسي التسوّل الجماعي طابعاً متزايداً للعنف، ويستطرد: إذا كان الشبّان في الريف معروفين بعضهم لبعض وللأهالي، حتى لو دهنوا وجوههم بالفحم، فالشبّان في أحياء المدينة الفقيرة بالكاد يعرفون سكان الأحياء الفخمة التي يرتادونها بمناسبة العيد»، ومع الوقت صار العيد يتكرر خلال احتفالات عيد رأس السنة الميلادية التي يحتفل فيها اللبنانيون في مقاهي شارع الحمراء، حيث يتدفق الشباب المقنّعون أو المعتمرون الطربوش التقليدي قادمين من الأحياء الشعبية القريبة والضواحي، يجتاحون الشارع الأشهر والأكثر حداثة والأرفع مقاماً في المدينة وسط أصوات المزامير وقرع الطبول، واجتياحهم للشارع لم يكن يخلو من بعض مظاهر العنف من قَرصِ للنساء واستفزاز الرجال. لم يكن الشبّان من المسيحيين فقط، بل من المسلمين ممن لا يعني «عيد البربارة» لهم شيئاً، ولا هم كانوا يتسوّلون، هم محرومو بيروت الذين يذكّرون مُترفيها بوجودهم، إنها الصيغة المستحدثة من «طقس البربارة»، حيث يكشف الفقر عن وجهه مرة كل سنة، هؤلاء ليسو أفراداً فقراء، يقول «فواز طرابلسي» إنهم «الفقر»، هكذا بلا وجه. بطبلة وزمرة.
الفقر إذ يجتاح المدينة
ثمة ما يلفت النظر في رأي المؤلف إلى أن «المحرومين لم يكونوا يمارسون التسوّل الجماعي، إنما الأخطر منه وهو اجتياح المدينة والإعلان عن الهوية، وتأكيد أن المدينة عشية رأس السنة هي مدينتهم دون سواهم، وعليه يرى أن الوظيفة الاجتماعية لكرنفال الاحتفال تكمن في خلقه لحظة زمنية من الهروب والحرية والمساواة، فهو انقلاب في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي «الطبيعي» للأشياء، ويشبهه باحتفال الكرنفال في مدينة «ريو دي جانيرو» وباهيا» في البرزايل، إذ يحتل الفقراء المتدفقون من أحشاء المدينة وضواحيها الفقيرة المدينة فتصير مدينتهم، يمارسون فيها الفرح ويعزفون موسيقاهم ويرقصون رقصاتهم «السامبا» ويؤكدون وهم المدقعون الجياع، ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم فارضين إياها على سائر فئات المجتمع، خلال تلك الأيام الاستثنائية الانقلابية، يحكم الفقراء أنفسهم بأنفسهم، أو على الأقل يحكمهم واحد منهم، بيد أنه وفي نهاية طقوس الكرنفال يعمد المحتفلون إلى قتل «العرنديس» مستنتجاً بأن لهذه الممارسة دلالات ملتبسة، تقوم على الوعد والانتهاك الذي مثل الشرارة التي أطلقت الحرب اللبنانية، كيف؟
يكتب، «في الأشهر الأولى من الحرب اكتسى العنف طابع الاحتفال الكبير بعيد البربارة، انقلب النظام الاجتماعي وصار العيد أشبه بعملية «إعادة توزيع عمومية» للثروات، فكانت عملية نهب مرفأ بيروت ووسط المدينة وأحياء الفنادق والقنطاري تحقيقاً عمليّاً غير مكتف بالترميز لإعادة التوزيع، فقد تحقق أخيراً ما بشر به اليمين المنفتح عشية الحرب: «الشراكة في الثروة والازدهار»، إذ تناوب المقاتلون من جانبي خطوط التماسّ على نهب وسط المدينة، وهم أنفسهم من كانوا قبل الحرب، يجتاحون شارع الحمرا ليلة رأس السنة ليفرضوا عالم الفقراء، رمزيّاً، على عالم الأغنياء، فإذا بهم يجتاحون وسط المدينة، مسلّحين، ليقيموا الحفلة العربيدة وإعادة التوزيع العمومية لمحتويات الخزنة الزاخرة، التي كانت المرفأ وأسواق الوسط التجاري».
ويضيف بألم تستشعره من جوارح من ذاق مرارة الحرب وأكتوى بأهوالها: «انتفض سكان أحشاء المدينة وضواحيها والوافدون حديثاً إليها واجتاحوا المدينة، «مدينتهم»، وبسخرية: «لو كانت حقّاً مدينتهم لما اجتاحوها. اجتاحوها لأن في تلك المدينة كانت تعيش مدينتان. مدينة لسكانها ومدينة ليست لهم. مدينة للأغنياء ومدينة للفقراء».
ختاماً، لمن لم يدرك حتى اللحظة أبعاد تمدد وحش الفقر الذي يحتفل العالم سنويا بمكافحته ويتصدر الأهداف الإنمائية لألفية ما بعد 2015، لمن يصم الآذان ويوغل في فحش الفساد والتهميش والتمييز، زبدة الحكاية تقول: الفقر حين يجوع يأكل الأخضر واليابس.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4792 - الثلثاء 20 أكتوبر 2015م الموافق 06 محرم 1437هـ
اين انتم والمسؤلين واصحاب القرار عن معاناه المطلقات
الفقر والوجع يا استاذه يتمثل بامراة مطلقه وحيدة تصارع موج الحياة الغاضب ،، مسؤليه عيال بسن المراهقه ، راتب مليان ديون ، ايجار يكسر الظهر ،مصاريف مدارس ،، ضيق سكن ، غياب والد ماخذته الدنيا وناسي اولاده ،، هذا اهوه معنى الفقر ،،
الجوع كافر
البحرين صغيرة وبالامكان اذا تظافرت الجهود وحسنت النوايا معالجة مشاكل الفقر بل واجتثاثها ، انها حقا مسؤلية اجتماعية وطنية تحتاج الى النية المخلصة و العمل الجاد حكومي وأهلي كذلك