تتهيأ النفوس هذه الأيام لاستعادة الذكرى السنوية لاستشهاد الإمام الحسين بن علي (ع) في واقعة كربلاء، وبالنسبة إلى البحرينيين فإن هذه الشعائر التي لها عراقة ضاربة الجذور في تاريخ البلد تُجسّد صورة «مشرقة» من صور التراحم الاجتماعي وإشاعة المحبة بين الناس، صحيح أن شكل الطقوس والمراسم العاشورائية يعتريها التغير والتبدل بحكم عامل الزمن.
لم يعتنِ البحرينيون بتوثيق تاريخ وتطور مؤسسة المأتم، شعوراً منهم بعدم الحاجة إلى مثل هذا التوثيق في العقود الماضية، فالناس كانت تقيم طقوسها في كل عام بعفوية زاده رسوخاً عندهم ذلك الإحساس العميق بالوئام والتسامح المذهبي الذي كانت تعيشه البلاد في بعض تاريخها الماضي، ومع تطور الحياة وتزايد عدد المآتم والحسينيات تبعاً للكثافة السكانية وتنوع وسائل وأشكال الإحياء في مستوياته وجوانبه المتعددة: الإبداع الفني والرسومات، الحملات الإنسانية للتبرع بالدم، الإبداع النثري، الإبداع المسرحي، الإبداع الشعري وغير ذلك. أمام كل ذلك لم تعد مسألة توثيق هذا الحراك الاجتماعي والثقافي والديني في موسم عاشوراء نشاطاً ترفيّاً ضئيل القيمة.
ولعل الزميل عبدالله آل سيف أول من تنبه الى هذا الغياب في توثيق تاريخ المأتم الحسيني في البحرين فسعى إلى سدّ هذه الثغرة بكتابه الرائد «المأتم في البحرين» والواقع في جزءين، ويستند فيه إلى روايات شفهية لأهالي القرى التي زارها لتوثيق مآتمها، وبالطبع فإن التاريخ الشفهي، على رغم أهميته، لا يُغني عن الوثيقة التاريخية، إذ «لا تاريخ بلا وثيقة»، وأعرف أن هناك جهوداً يبذلها الباحث التاريخي محمد حميد السلمان في هذا السياق لإخراج موسوعة من المقدّر أن تقع في خمسة أجزاء تخص تاريخ المآتم والحسينيات في البحرين مزودة بالوثائق التاريخية وفق الضوابط المعروفة في مناهج البحث التاريخي.
وقبل ذلك، كان المستشار البريطاني تشارلز بلغريف (ت 1969) يبدي اهتماماً بحضور المآتم لدواعي الفضول والرغبة الشخصية، ولأسباب قد تتصل ربما بمسئولياته الأمنية، وقد ترك لنا عدداً من اللوحات الفنية الجميلة التي رسمها بريشته، تصور طريقة البحرينيين القديمة في إحياء الشعائر الحسينية، وفي إحدى هذه اللوحات يصور موكب العزاء وهو يشق دربه بين الطرقات وسط العاصمة.
وإحياء طقوس عاشوراء قديمٌ فالسيد عدنان الموسوي (ت 1929) عندما بدأ بتأسيس إدارة الأوقاف الجعفرية في العام 1927 وشرع فوراً بتوثيق الأوقاف حصر الكثير من موقوفات المآتم، وقبل ذلك بأكثر من مئة عام كانت الأوقاف الجعفرية تدار من قبل علماء الدين.
وعلى رغم ذلك، فالغموض يكتنف التاريخ الحقيقي لنشأة المأتم والحسينية كمنشأة خاصة لإقامة مراسم التعزية، وأبعد الوثائق التاريخية التي تسنى الوقوف عليها تُرجع تأسيس أقدم مآتم البحرين إلى حدود عام 1870 لكن متولي مأتم بن سلوم في المنامة يؤكدون وجود وثيقة ضائعة تُرجع تأسيس المأتم إلى العام 1830؛ لهذا تبدو وجاهة الافتراض التي ذكره يوسف النشابة - في محاضرة له قبل أيام - من أن «المآتم بحلتها الحالية، كانت مجالس بيوت وجهاء المنامة ومجلس بيت مختار القرية، المبنية من سعف النخيل، وفيها يجتمع الأهالي، ومع ازدياد خطباء المنابر وإقبال عدد كبير من المعزين، انتقل المأتم إلى عريش قريب لبيت الوجيه أو المختار يتسع إلى عدد كبير من الرواد» حتى تطور المأتم وأخذ وضعه وزخمه الحالي.
وقد أدركت القوى الوطنية اليسارية في وقت مبكر أهمية هذه الشعائر في تحريك مشاعر الناس وتعبئتهم مستغلةً المضامين الإنسانية لذكرى الحسين وإنسانيتها، فاختطف موكب العزاء الحسيني، ويروي رجل الدين العراقي السيد طالب الرفاعي أن الماركسية تسرَّبت عبر الرواديد ومنشدي المواكب، وإن مستهلات اللطميات كانت شيوعية واشتراكية، عمالية وفلاحية، فكان العزاء الحسيني يتحدث بلسان الحزب الشيوعي، ويذكر أن من مستهلات لطمياتهم:
«اتحاد فيدرالي، صداقة سوفياتية، مع الصين الشعبية، وأيزنهاور ينهار... يا حيدر يا كرار» ! (أمالي السيد طالب الرفاعي، ص 133).
ولقد استفاد اليسار البحريني من تجربة الحزب الشيوعي العراقي في اختراق المواكب الحسينية، فأنشدت قصائد ذات مضامين ماركسية في مواكب العزاء، وكان منها لطمية تقول بعض أبياتها:
ياصاحب الثار عجل بالنصر
جبهة التحرير لابد تنتصر
وقد أُنشدت في العاصمة (المنامة) ومنطقة (رأس الرمان) بعد أحداث العام 1966م. عندما أسهم الصدام بين عبدالناصر والإنجليز بعد تأميم قناة السويس، وما تلا ذلك من عدوان ثلاثي، وأحداث الثورة المسلحة في الجنوب اليمني، أسهم في تأجيج المشاعر الوطنية ضد الوجود الإنجليزي في البحرين، وخاصة بعد انتفاضة مارس / آذار 1965 التي شكلت علامة فارقة في تاريخ العمل الوطني.
والنماذج في حضور قضايا الأمة العربية والإسلامية في شعر الموكب الحسيني أكثر من أن تحصى بدءاً من قضية فلسطين مروراً بنكسة يونيو/ حزيران العام 1976، والثورة الجزائرية والكفاح الوطني الليبي، وهذا موضوع يحتاج إلى دراسة مفصلة تستوعب حقبة كاملة من الانكسارات والهزائم العربية التي حفل بها تاريخنا العربي.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4791 - الإثنين 19 أكتوبر 2015م الموافق 05 محرم 1437هـ
ملاحظة على المتن
استاذ وسام يعطيك العافية على البش في التاريخ .تقول تاسيس اقدم مأتم يعود الى 1870 هل يعني قبل هذا التاريخ لايوجد مآتم؟ واظن ان تاريخ المآام والحسينيات اقدم من بكثير مما ذكرت وربما في القرى اقدم من المدن وبالمناسبة كانت بعض المساجد هي في نفس الوقت مآتم فيما مضى . فعلى سبيل المثال كان مسجد شيخ علي بن حماد في باربار في الاصل مأتم للشيخ على بن حماد ثم اصبح مسجدا بعد وفاته . احداث العام 1966 لايوجد احداث في هذه السنة تقصد عدوان 1956 على مصر . مع تحياتي يوسف مكي
عقد الستينيات !!
صديقي استاذ يوسف.. اشكر لك لطفك.. بالتأكيد المأتم والشعائر الحسينية قديمة قدم رسوخ ولاء البحرينيين لأهل البيت.. ولكن الكلام في تخصيص منشأة خاصة باقامة مراسيم الندب على الحسين طبقاً للوثائق التاريخية الموجودة.. كلامك صحيح في ما يخص ان المساجد كانت تحتضن هذا النشاط وهذا ما يعزز وجاهة البحث في نشأة المأتم في البحرين.. بخصوص عقد الستينيات.. كيف لا توجد أحداث فيه وهو عقد ملتهب والاستعمار البريطاني جاثم على المنطقة ؟؟ أوليست حرب 1967 أو ما تعرف بنكسة حزيران أو حرب الأيام الستة في الستينيات ؟؟