من غير المألوف أن نعيش ساعة، أو دقيقة، أو حتى لحظة واحدة من دون البحث عن مصدرٍ للمتعة أو السعادة. هذا هو سرُّ تمسك الإنسان بالحياة. فعند الموت لن تعرف جمال هذه الدنيا، وعلى رغم تنوع مصادر السعادة بين سمعية أو بصرية، أو فكرية، أو مزيج متداخل ومتشابك بين هذه وتلك، وإن اختزلت في أبسط صورها ككوب من الشاي أو القهوة إلا أن هذه المتع منوطة بأمور شتى تتنوع بتنوع أهواء الفرد وهواياته وأحواله المادية والاجتماعية.
وقد أتحفتنا قصص الأولين من الملوك والسلاطين بغرائب وعجائب من أنماط السلوك التي تصبُّ في جلّها في ملء أوقات الفراغ بهوايات وميول ومرح وأهواء قد تشطح بالسلطان في اقتناء الغالي والنفيس، والبحث عن المتع الدنيوية ولو في أقصى الأرض كأن يقضي السلطان نهاره في الصيد ومساءه في سماع مشاهير الطرب، ومشاهدة فاتنات الرقص والغناء على أنغام الموسيقى وأقداح النبيذ.
إن سلاطين الطرب والرقص في اقتناء كل غالٍ ونفيسٍ لا يختلفون عن فقراء الناس، فالبوصلة وجهتها واحدة وإن اختلفت الطرق، أعني البحث عن المُتع الحسية بأشكالها (السعادة) كافة، لكن، كلٌّ من موقعه الاجتماعي وبما ملكت يده، ولنأخذ بعض الأمثلة لما يجري في بلادنا العربية والخليج تحديداً، ففي حين يجنح متوسطو الحال لاقتناء ما تطوله محافظهم وربما أكثر من قدرتهم المالية للاستمتاع بمباهج الحياة، كالسفر إلى أوروبا واقتناء السيارات الفاخرة وإرسال أبنائهم إلى أغلى جامعات العالم حتى لو استنزفت موازنة الأسرة حتى النخاع، من جانب آخر نجد أن الأثرياء يتباين نهجهم في التعبير عن المتع الدنيوية (السعادة)، فكلما قفزت رغبة ما إلى عقل أحدهم انصاع لها حسابه المصرفي بالأمر والطاعة، وهكذا تحت سطوة رغباته وأهوائه المتزايدة، ومع مرور الزمن تتضاعف مقتنياته من عمارة إلى أربع وربما عشر، ومن سيارة إلى سبع ومن منزل إلى ثماني سيارات، هذا غير اليخوت والمنازل الجميلة في الدول الأخرى ما يؤسس لصورة خلابة في أذهان الناس للمليونير متعدد الأملاك ومحط أنظار الحساد والمتربع على عرش السعادة بامتياز.
لكن سواد الناس ليسوا دائما على هذا النحو، فكثير من الفقراء يتقاسمون السعادة شأن باقي الفئات وكلٌّ له بوصلته الخاصة ونهجه الخاص في ولوج بستان السعادة، بمعنى أننا لا ندرك السر في اقتناص كثير من الفقراء أسبابا للسعادة ليس في وسع الأثرياء مجاراتهم، نلاحظها باندهاش في إقبالهم على الأكلات الشهية في الأعراس والمناسبات السعيدة أو التمتع بالسفر والترحال وتحمل أعباء شاقة باستخدام وسائل نقل ليست مريحة لمسافات وساعات طويلة بسعادة وامتنان! أو الاستغراق في النوم العميق لساعات طويلة دون انقطاع، ساعة يشاؤون وغيرها من الأمور البسيطة والتي تجلب لهم (الفقراء) السعادة، كالمشاركة الفعالة في الأفراح والأتراح ومساعدة الآخرين في الملمات والمحن، وقد رأينا ذلك في أحياء وقرى البحرين في ستينات وسبعينات القرن الماضي وكيف يشمّر الجميع عن أذرعهم ويهبوا للمساعدة الإنسانية متى لزم الأمر بسعادة لا توصف، بل إن بعض القرى ولحسن الحظ مازالت تعيش بعض هذه الاجواء حتى الان.
كان من الطبيعي جدا أن تلفت هذه الاختلافات والنهج كثيراً من الكُتّاب والفلاسفة على مدى التاريخ. هذا البون الشاسع بين الفئتين أوصل أحد الفلاسفة إلى وضع نظريته أو معادلته للسعادة وبالشكل الذى تنطبق على الفئتين بدون باق!؟ إذ تصور الأمر على شكل كسر عشري الشق السفلي (المقام) ويمثل الرغبات التي تدفع صاحبها لامتلاك وحيازة الأشياء المادية المختلفة في هذه الدنيا، أما الشق الأعلى (البسط) فهو يمثل الأشياء الدنيوية التي يحوزها الإنسان تحت حمّى الرغبات والقادمة من المقام؛ لتحقيق السعادة المنشودة والتي يسعى العقل (الوسيلة) إلى تذليل كل الصعاب لامتلاكها، وعليه كلما أردنا تحقيق رغباتنا المتزايدة والمتمثلة في المقام وهذا حال الأثرياء في كل العالم ضاعفنا الأهداف الدنيوية وزدناها في البسط، فبدلا من سيارة واحدة ثماني سيارات، وبدلا من مليون واحد تضاعف إلى عشرة ملايين، وبدلا من منزل واحد تضاعف إلى أربعة منازل، ومئة بدلة، ومئة حذاء، وعشيقتين، هذا غير آلاف النفائس والمجوهرات، وكل ما ينصاع له الحساب المصرفي بالأمر والطاعة، ولكي نفعّل عمل هذا الكسر ونضعه موضع التطبيق بالزيادة والنقصان نقول:
للحصول على سعادة أكبر نكبر البسط هكذا يبدو الأمر عشر سيارات، أربع زوجات، خمسة بيوت، مئة بدلة، مئة حذاء، بمعنى كلما كبر البسط كانت النتيجة (السعادة) أكبر. على هذا النحو يمثل المقام كما أسلفت سيلاً لا ينقطع من الرغبات المتدفقة إلى السطح. البسط الذي يزايد عليها حتى يرفع الناتج (السعادة)، والتي هي نتاج قسمة البسط على المقام في (الكسر العشري).
هنا توقف الفيلسوف ونظر في الأمر مخاطبا البسط: أليس هناك من سبيل للوصول إلى سعادة أكبر من دون الحاجة إلى المزايدة؟ فرد البسط: المقام لا يهجع ولا يستكين ويطلب الكثير، وأنا ليس في وسعي تحقيق ناتج أكبر سوى المزايدة عليه.
هذه المعادلة هي الشكل الطبيعي لأغلب الأثرياء وفاحشي الثراء، هنا غيَّر الفيلسوف القاعدة مخاطبا المقام: لقد أغفلت أمراً بسيطاً فرد المقام: وما هو؟ فأجاب الفيلسوف: كلما قلّلت من رغباتك قلّلت العبء على البسط، وربما ضاعفت الناتج دون دفعه للمزايدة، بمعنى ثمانية قسمة أربعة يصبح الناتج اثنين. والأفضل تصغير المقام (الرغبات) ثمانية قسمة اثنين يصبح الناتج أربعة. أرأيت؟ هذا مثال فقط وللوصول للحالة المثلى، نقلص الرغبات بالتدريج وصولا إلى الحد الأدنى وهو الصفر، فيكون الكسر على هذا النحو الجديد واحداً على صفر (لا نهاية) سعادة غير مشروطة بالحاجات المادية.
هذه الحالة التقشفية هي الشكل الأمثل، وهى تمثل أولياء الله الواصلين الزاهدين الذين اكتفوا بحب الله دون بهرج الدنيا وإغراءاتها، لكن ليس هذا حال سواد الناس، وبالمثل النموذج الأول المفرط في البذخ والتبذير ليس بالوضع الصحي، فالمقتنيات المادية ربما تجلب بعض السعادة الآنية لكن يبقى مالكها حبيس الهواجس والخوف من سرقتها أو فقدانها أو تلفها، وغيرها من الأسباب مما تجلب له البؤس وتنغص عليه صفو حياته، حتى انه يحسد الفقراء على راحة بالهم، لكن هذا لا يمنع أن يحيا الإنسان بسعادة وهناء، بعيدا عن البهرجة المفرطة بالاعتدال. لا إفراطاً ولا قبض.
إن رواد المنهجين وما بينهما من السواد الأعظم من الناس وسبلهم المختلفة التي اعتادوها والفوها وساروا خلفها بملء ارادتهم تقودهم وتحط رحالهم في نهاية المطاف عند ضفاف بحيرة السعادة، حيث يهدأ العقل ويستكين لبعض الوقت قبل البحث عن رغبة أخرى وثانية وثالثة، ولمَ لا، مادام الهدف هو الوصول الى السعادة، وجهة كل البشر على اختلاف أجناسهم ومللهم ومناهجهم. تلك هي الحقيقة.
هوامش:
البسط (الماديات الدنيوية) = السعادة
المقام(الرغبات)
إقرأ أيضا لـ "سيدعدنان الموسوي"العدد 4780 - الخميس 08 أكتوبر 2015م الموافق 24 ذي الحجة 1436هـ