تحظى الوثائق الدستورية بمكانة متميزة في البناء القانوني للدولة، وتتصدر أحكامها وقواعدها مكان الصدارة بالنسبة إلى بقية القواعد القانونية الأدنى مرتبة. لذلك يجب أن تجرى جميع أعمال وتصرفات السلطات العامة والأفراد في دائرة هذه القواعد التزاما بمبدأ سمو الدستور وعلوه، بحيث لا يجوز أن تصدر قاعدة قانونية عادية مخالفة لأحكام الدستور. ونظرا إلى أهمية الوثائق الدستورية وعلو منزلتها فإن الدول والشعوب تحرص على أن تدون فيها مكاسبها وحقوقها وحرياتها، حتى تكون لها قدسية النصوص الدستورية والمكانة ذاتها.
ويقتضي ذلك احترام قواعد الدستور وحمايتها من الخروج عليها من جانب سلطة التشريع فيما تصدره من تشريعات قد تنطوي في بعض الأحيان على تعارض مع القواعد الدستورية التي تحتل مرتبة أعلى منها، ولذلك فإن النظم الدستورية الحديثة تحرص على كفالة نوع من الرقابة على العمل التشريعي الذي تسنه السلطة التشريعية صونا لأحكام الدستور وحماية لها من الاعتداء عليها. ومن هنا تأتي أهمية الرقابة على دستورية القوانين قضائية كانت أم سياسية.
وعلى رغم ذلك ونظرا إلى اعتبارات تتعلق بالصياغة الفنية لأحكام الدساتير فإن المشرع الدستوري يحيل إلى القوانين العادية تنظيم موضوعات معينة، منها مدى الحريات العامة، على رغم ان مجرد النص على هذه الحريات في الدساتير يعتبر من الضمانات القانونية المهمة، ويجعل منها مادة دستورية لها القيمة ذاتها التي تتمتع بها النصوص الدستورية.
غير أن الضرورات العملية لم تسمح للدستور سوى بالنص على حقوق وحريات الأفراد تاركا أمر تنظيمها إلى المشرع العادي. لذلك كان لا بد من التسليم بسلطة المشرع العادي في تنظيم الحريات العامة، وأصبح المبدأ سائدا منذ إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي سنة 1789م. ومقتضى هذا المبدأ هو أن تنظيم الحريات مجال محجوز للمشرع، والمشرع وحده المختص بتعيين الحدود التي يمارس بها الفرد حريته، ومرد ذلك يعود إلى ان التشريع باعتباره صادرا عن الإرادة العامة، وتحت رقابة الرأي العام، لا يميل إلى الطغيان، ولن يقهر الحريات، ولا يمكن أن يشكل مصدر خطورة عليها أو تهديد لها. بل على العكس من ذلك فإن الحرية تجد في القانون ضمانا وحماية لها، لا يهدرها وإنما يعضدها وهو كتعبير عن الإرادة العامة يكون الأقدر على تحقيق متطلبات الحرية في إطار ما نص عليه الدستور.
فالوثائق الدستورية في العصر الحديث تضمن للإنسان الحريات كافة، ولكن الوجود الواقعي للحريات وكفالة ممارستها يتحدد في نطاق التشريعات العادية. فالمشرع هو الذي يقوم بتنظيم الحريات العامة، وهذا التنظيم الذي يتولاه المشرع هو الذي يقدم للحرية إمكان الوجود الواقعي ومن خلاله تصبح الحرية موجودة وقائمة.
واستنادا إلى هذا نجد بعض فقهاء القانون يذهبون إلى القول إن الحريات لا توجد إلا حيثما يوجد التشريع المنظم لها، وهذا ما عبر عنه الفقيه الفرنسي اسمان بقوله: «انه لا يكفي أصلا أن يكفل الدستور ممارسة حرية ما لكي توجد هذه الحرية بل لابد أن يوجد تنظيم لها بواسطة التشريع، ومادام هذا التشريع لم يصدر فان النص الدستوري لا يمثل سوى وعد دستوري غير قابل للتطبيق».
والواقع إن أهمية التنظيم التشريعي في مجال الحريات العامة تعزى إلى جملة من الاعتبارات العملية جعلت من التشريع خير وسيلة لحماية الحرية، وتتمثل هذه الاعتبارات في ناحية أولى فيما تمر به عملية إصدار القانون من مراحل متعددة وما يحوط بها من إجراءات شكلية وما يصاحبها من مناقشات واسعة.
كما تمثل من ناحية أخرى فيما يتصف به التشريع من عمومية تضفي عليه طابعا غير ذاتي ينتفي معها كل احتمال للتعسف ما دام التشريع لا يواجه حالات معينة بذاتها ولا أفرادا معينين بذواتهم وإنما يقرر قواعد موضوعية توضع مقدما، وتطبق على الحالات والأشخاص كافة الذين تتوافر فيهم شروط تطبيقها. وتتأكد أهمية هذه الضمانة بصورة جلية إذا أخذنا في الاعتبار ان تطبيق القواعد التشريعية وخصوصا في المسائل الجنائية لا يكون إلا بأثر فوري على الوقائع اللاحقة لتاريخ صدوره.
ولا يكفي وجود النصوص الدستورية والقانونية لحماية الحريات العامة، وإنما يجب أن تتقيد السلطتان التشريعية والتنفيذية في كل تصرفاتها بالنصوص الدستورية أولا وبالتشريعية ثانيا، وهذا ما يطلق عليه مبدأ سيادة القانون أو مبدأ المشروعية. غير أن خضوع السلطة للقانون والدستور لا يكون خضوعا حقيقيا ما لم يقترن بوجود رقابة قضائية تكون مهمتها إلغاء أو عدم تطبيق القوانين المخالفة للدستور وإلغاء القرارات المخالفة للقانون. لذلك تعد الرقابة القضائية من أقوى الضمانات التي تقدمها النظم المعاصرة لحماية الحقوق والحريات وتحقيق مبدأ سيادة القانون.
فالقضاء يمثل الحارس الطبيعي لحقوق وحريات الأفراد، إذ لا يكفي مجرد إعلان مبادئ الحريات وتنظيمها دستوريا وتشريعيا، وإنما يتعين فضلا عن ذلك أن يملك أصحابها الوسائل الكفيلة باحترامها، وخير وسيلة تضمن احترام حقوق وحريات الأفراد هو القضاء.
استنادا إلى ما سبق يمكن القول إن الدستور ينص على حقوق وحريات الأفراد ويوكل أمر تنظيمها للمشرع، وعلى المشرع أن يتقيد بالحدود والقيود التي وصفها الدستور فإذا خرج المشرع عن هذه الحدود حق للأفراد اللجوء إلى المحكمة الدستورية لإلغاء القانون المخالف للدستور. بمعنى آخر إن الدستور يخاطب السلطات العامة، والقانون يخاطب الأفراد، فإذا لم يلتزم المشرع العادي بالدستور، بما يضعه من تشريعات وقوانين جاز للأفراد اللجوء إلى القضاء الدستوري لإلغاء هذه القوانين. وبالتالي فان العلاقة بين الدستور والقانون علاقة إطار، أي ان الدستور يضع الإطار العام للقانون، وثم يتولى القانون مهمة تفصيل الأحكام والمبادئ الواردة في الدستور، لكي تصبح نصوصا قابلة للتطبيق.
في ضوء ما تقدم، نجد ان دستور مملكة البحرين للعام 2002م نص على الحقوق والحريات الأساسية للأفراد، وخصص لها بابا مستقلا، ووضع الضمانات الكفيلة بحمايتها، فقد وضح الدستور الحريات الشخصية مثل حق الأمن، وحرمة المنازل، وحرية التنقل، وسرية المراسلات، كما كفل حرية الرأي، والصحافة، والتعليم، والاجتماع، وحق تكوين الجمعيات، وحرية العقيدة، وحرية ممارسة الشعائر الدينية. ولا يخلو أي نص من عبارة... وفقا للقانون، أو ... وفقا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون، بمعنى ألا يكون الإقرار الدستوري للحريات العامة وكفالتها أن تكون مطلقة، وإنما يتعين أن يتولى القانون تنظيمها من أجل المحافظة على النظام العام، وحتى يمكن أن تمارس الحرية ذاتها من الناحية العملية.
إن الحفاظ على النظام العام لا يتعارض مع الحريات، لذلك فان التنظيم التشريعي لا يخلُّ بالحرية، بل يقدم اليها إمكانية الوجود القانوني والممارسة الفعلية، ومن دون هذا التنظيم قد يصبح المجتمع فوضى. لذلك لا يصح أن يزعم الفرد أن الدستور منحه حق الاجتماع، وتكوين الجمعيات، وغيرها، وينسى ان هذه الحقوق تمارس وفقا للقانون، فالدستور لا يخاطب الأفراد وإنما يخاطب السلطات العامة، وعلاقة الفرد بالدستور تتم من خلال القانون.
فإلى جانب الحرية يوجد النظام العام، وأي إخلال بهذا النظام تهديد للمجتمع وإخلال بكيانه، لذلك تقوم الدولة بوضع القواعد القانونية التي تحدد الإطار التنظيمي للحريات العامة ورسم الحدود اللازمة لها، من أجل تحقيق الانسجام بين النظام وممارسة الحرية. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل تتفق القوانين الوضعية على إعطاء الحق للجهات الإدارية المخولة في وضع القيود على حريات الأفراد من أجل المحافظة على النظام العام، أي ان الإدارة تملك القيام بتصرفات وإجراءات تمس بها حريات الأفراد ونشاطهم الخاص من أجل استتباب الأمن وصيانة النظام العام، واعادته إلى الحال التي كان عليها إذا اضطرب، أو اختل، وهذا ما يسمى بالضبط الإداري. إذا فان الدستور قد نص على الحقوق والحريات ولكن ممارسة هذه الحقوق وتلك الحريات تتم وفقا للقانون.
وقد نص الدستور على مبدأ سيادة القانون، هذا المبدأ الذي يعني أن تخضع جميع الهيئات الحاكمة للقانون شأنها شأن الأفراد، أي أن يخضع الحكام والمحكومون للقانون، والمراد بالقانون مفهومه العام الواسع الذي يشمل كل قاعدة مجردة أيا كان مصدرها، سواء كانت قاعدة دستورية، أو من التشريعات العادية، أو اللوائح والأنظمة التي تضعها الجهات الإدارية المختصة.
ومادام القانون أو اللائحة قائما ونافذا فهو صحيح ودستوري ومشروع، ومقتضى ذلك ان الأصل هو سلامة كل ما يصدر عن السلطتين التشريعية والتنفيذية من قوانين ولوائح، ومن ثم لا يجوز أن يكون سريانها محل اختلال، وإنما يكون إنفاذها وتطبيقها لازما من تاريخ العمل بها، إلى أن يتم إلغاؤها أو تعديلها من الجهة المختصة، أو صدور قرار بابطالها من المحكمة التي تملك هذا الحق.
وقد نص الدستور الحالي للمملكة في المادة (106) على الرقابة على دستورية القوانين بإنشاء المحكمة الدستورية التي تتولى الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح. وتطبيقا لهذا النص صدر قانون المحكمة الدستورية رقم (27 لسنة 2002م). ولما كان دستور المملكة وقانون إنشاء المحكمة قد نصا على اختصاص الأخيرة برقابة دستورية اللوائح، فهذا يعني ان الاختصاص منوط بالمحكمة في حال مخالفة اللائحة لأحكام الدستور مباشرة، بحيث لا يمتد اختصاصها إلى رقابة اللائحة في حال مخالفتها للقانون، إذ ينعقد الاختصاص في هذه الحال للدائرة الإدارية بالمحكمة الكبرى المدنية، لان الرقابة هنا رقابة مشروعية لا رقابة دستورية.
وهكذا فان القانون أو اللائحة يبقى نافذا وملزما مادام قائما، وعلى من يشكك في دستورية القانون أو اللائحة أو في عدم مشروعية اللائحة سلوك الطريق الذي رسمه القانون للطعن، وبالتالي لا يجوز أن نطالب بتطبيق القانون على الحكام ونعفي أنفسنا منه. فمبدأ سيادة القانون يعني أن يخضع الحكام والمحكومون للقانون على حد السواء
العدد 478 - السبت 27 ديسمبر 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1424هـ
لم افهم شيئا