العدد 4770 - الإثنين 28 سبتمبر 2015م الموافق 14 ذي الحجة 1436هـ

«الواتس أب» المفترس الرهيب

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

قبل أيام شاهدت حواراً تلفزيونياً قديماً مع عميد الأدب العربي طه حسين (ت 1973م) عبر اليوتيوب، وكان هذا البرنامج الحواري من تقديم المذيعة القديرة ليلى رستم وبحضور عشرة من كبار الأدباء في زمنهم أبرزهم يوسف السباعي وثروت أباظة وعبدالرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ ومحمود أمين العالم وعبدالرحمن بدوي.

ما لفت نظري في هذا الحوار الشيق ليست لغة العميد المشرقة ولا آراءه الجريئة ووفاءه المدهش للغة العربية؛ ما لفت نظري هو نبرة الأسى التي بدت في كلامه حين تحدث عن طغيان المسرح والسينما على اهتمامات الجيل الشاب (الذي كان) وتراجع حظ القراءة والاهتمامات الفكرية الجادة!

تبسمت ابتسامة دهشة واستغراب وتساءلتُ في سري: ماذا لو كان صاحب (الأيام) يعيش بيننا اليوم حيث وسائل التواصل الاجتماعية لا تزيح فقط الاهتمام الجاد؛ بل تقضي حتى على الذوق والخصوصية الفردية وتُدمّر الروابط الأسرية وتصيب العلاقات الإنسانية بين البشر في مقتل وتُشيع بينهم وهماً كاذباً وشعوراً مزيفاً بالاكتفاء الذي يحققه التواصل الإلكتروني عوض حرارة العلاقات الإنسانية المباشرة؟!

ومع انتشار حمّى المجموعات التي يتيحها برنامج المحادثات العالمي الشهير WhatsApp (الواتس أب) صار من المألوف أن يكون الفرد منا - مختاراً أو مرغماً - عضواً في أكثر من مجموعة أكثر ما يدور فيها طرائف وغرائب وأدعية دينية وإشاعات نستسهل نشرها بين معارفنا تحت عنوان (كما وصلني)، ومناكفات ومزاعم وأكاذيب، فكم يقضي الفرد منا في متابعة كل هذا السيل العرم من الرسائل اليومية التي لا تتوقف على مدار الساعة ويجد نفسه - بدافع الفضول والإدمان - مرغماً على متابعتها؟ أترك الجواب لكم.

في الغرب المتقدم الذي ابتكر لنا كل هذه الوسائل الحديثة للتواصل يجري الانتفاع بها في التسويق للأفكار الخلاّقة والترويج للإبداع والفن والإنتاج المثمر في عالم الفكر والأدب والثقافة والمال والأعمال، أما في شرقنا المنحوس فإن أكثر ما يشغل شبابنا وشاباتنا على وسائل التواصل الاجتماعية: طلب الصداقات والتعارف مع الجنس اللطيف أو الخشن واللهو غير البريء في فضاء إلكتروني مترامي الحدود، وإذا ما أسرفنا في حسن الظن: قلنا إن وقتاً غير قليل يُنفق في المناكفات الطائفية والحجاج السياسي والتفنن في اختلاق المعارك الوهميّة وفي تصنيف الناس ألواناً ومذاهب.

قبل فترة قرأت قصة الشابة إليزابيث التي تقضي يومها في العمل منذ أن تستفيق وتعمل 7 أيام في الأسبوع، ولا تملك تلفزيوناً في بيتها، ولا تخرج في مواعيد غرامية ولا تكرس وقتها للصداقات، ولم تأخذ عطلة منذ عشر سنوات، إليزابيث هذه ليست إلا رائدة الأعمال الأميركية وأصغر مليارديرة في العالم، والتي استطاعت بمثابرتها وجديتها أن تحقق ثروة تقدّر بنحو 4.7 مليارات دولار!

لقد تمكنت هذه الفتاة الجادّة من تأسيس شركة (ثيرانوز)، لاختبارات الدم والتي أسستها عندما كانت في التاسعة عشر من العمر محققةً بذلك ثورة في العالم المخبري. وما يعنيني في قصة هذه الأميركية الشقراء تلك العزيمة والإصرار العنيد على النجاح واستثمار الوقت واستغلاله في إنجاز عمل عظيم ينفع البشرية ويسهم في رقيّها.

وقد طالعتنا الصحف قبل أيام عن تحذير أطلقه عالم نفس بريطاني عن خطر ترك الأولاد الذين يستخدمون الأجهزة اللوحية مثل «آيباد». وقال الدكتور ريتشارد هاوس إن إعطاء الأطفال أجهزة لوحية يعادل «الاستغلال»، لأنه في الحقيقة مقامرة بنموهم. وشدّد على أن أجهزة من هذا النوع «ليست ضرورية وغير مناسبة ومضرة بالأطفال».

والتبرير الذي ساقه هاوس الغيور على صحة البشر النفسية: إن الصور الإلكترونية تؤدي إلى «تجربة غير مباشرة ومشوهة للعالم»، مشيراً إلى أن «العالم الحقيقي والطبيعي مليء بالتحديات التي ينبغي للبشر فهمها». وقال هاوس: «إرباك الأولاد عند بداية فهمهم لهذا العالم، عبر تعريفهم على عالم خيالي وتكنولوجي سحري، هو بالتأكيد قلب للنظام الطبيعي للأمور».

ولكن هل هذه التأثيرات السلبية تقتصر على الأطفال؟ بالطبع لا، فأثرها أكبر على البالغين وتداعياتها أشد فتكاً على الكبار.

لقد أنتجت وسائل التواصل الاجتماعية ثقافة جديدة لدى الناس، ثقافة تقوم على الهذر (كثرة الكلام) والهدر (الهدر النفسي، هدر الوقت، هدر اجتماعي) والتباهي الفارغ ونشر الشائعات والدعايات التي لها مردود فكري وأخلاقي واجتماعي سلبي، فقد شاعت مظاهر العزلة الفردية، عزلة تحوّلها تقنيات التواصل الحديثة إلى سراب كاذب من التواصل وانحسار المسافات والاقتراب من الآخر وهو ليس كذلك.

قبل يومين كنت أتحدث مع صديق عن التأثيرات السلبية التي تخلفها برامج المحادثات الاجتماعية على الناس فقال لي: «الذين يهدرون أوقاتهم في برامج كهذه هم في الواقع لا يعملون ولا ينتجون وليست لديهم أحلام ولا أهداف يحققونها في حياتهم». وهذا صحيح الى حدّ بعيد.

وأعتقد بأن الاستغراق والمبالغة في إدمان المحادثات الإلكترونية يُعد هروباً من واقع لا نقدر على مواجهته، وهو - بالنسبة الى من يُبالغون في تقدير ذواتهم غروراً ووهماً - يُعدّ إحدى الوسائل الدنيئة لإثبات تفوق مزيف على المجتمع برمته والتعالي عليه والحطّ منه والاستخفاف بمقدراته، وهنا يتحول هذا الانغماس الأبله في إدعاء التفوق محاولة للتعبير والتعويض عن فشل في واقع الحياة يعيشه البعض فيتحول أو يحوّل نفسه إلى «ناشط افتراضي» وخصماً لدوداً ومشاكساً عنيداً للمجتمع.

في التراث العربي القديم: «قيل لعجوز من بني بكر بن وائل ذهبت منه لذة المأكل والمشرب والقدرة على التمتع بالملذات الحسية: أتحب أن تموت! قال: لا. قيل له: فما بقي من لذتك في الدنيا؟ قال: أسمع بالعجائب». وما أظن أن العجائب التي عناها هذا العجوز العربي إلا علم ينتفع به وعبرة يُتعض بها.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4770 - الإثنين 28 سبتمبر 2015م الموافق 14 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:02 ص

      اشلون في الغرب يستغلونه للتقدم؟

      غريبه والله كلما تكلمنا عن سوء عندنا رحنا مدحنا الغرب، الغرب في استخدامه لبرامج التواصل الاجتماعي أسوأ بكثير من سوء استخدامنا، بس ما نعرف الا انذم في أنفسنا

    • زائر 3 زائر 2 | 3:19 ص

      الغرب مجتمع مهترأ منحل متفسخ ساقط

      وما نعيشه من مساوئ هو من قذاراتهم اللتي اتخذو من هذه الوسائل طريقا لتمزيقنا وتفكيكنا وانحلالنا مع الاسف والتسلط علينا واستغلال ثرواتنا والتبعية لهم كل هذا وما زال بعضنا يتشدق بالغرب اللذي اوصلناوالعالم الى الحضيض من القيم والمساوئ فأصبح المعروف لدينا منكرا والمنكر معروفا .الله يفرج.

    • زائر 4 زائر 2 | 5:37 ص

      لاتعليق

      لا تعليق على ملاحظتك القيمة

    • زائر 1 | 1:22 ص

      أحسنت ..

      بارك الله فيك موضوع شيق نستلهم منه العبرة لمراجعة تعاملنا مع آفة الواتساب التي لم نحسن استخدامها سوى في الفاضي والرخيص وكشف الخصوصية وإثارة الفتن ماظهر منها ومابطن ونشر كل مايقع بين أيدينا بسرعة البرق حتى لا يسبقنا من هو اشطر منا ولا تهمنا العواقب من صحة الخبر أو عدمه وبالله المستعان .

اقرأ ايضاً