عنوان هذا الحديث، مستوحى من الندوة التي عقدتها المنظمة العربية لمكافحة الفساد، في العاصمة اللبنانية بيروت، على مدى يومين متتاليين، في 17 و18 من هذا الشهر.
وجاء انعقاد هذه الندوة، في إطار أنشطة درجت هذه المنظمة على تنفيذها، منذ العام 2005م، حين صدر مرسوم جمهوري بالموافقة على تأسيسها، كمنظمة عربية، تتخذ من بيروت، مقرّاً رئيسيّاً لها. وكان هذا التأسيس، حصيلة جهود نخبة من المفكرين العرب، وأصحاب المشورة، والعاملين في الحقل العام، جمعهم اهتمامهم بأمور الشفافية، ومكافحة الفساد، والعمل على سيادة أنماط الحكم الصالح، في الأقطار العربية.
والهدف من تأسيس هذه المنظمة، كما نص نظامها الأساسي، كان ولايزال، تعزيز القدرات والإمكانات الهادفة، إلى بحث وتحليل أسباب الفساد وتغلغله وانتشاره، ومكامن مخاطره على الأقطار والمجتمعات العربية، من أجل تحديد الوسائل المؤسسية والقانونية والمجتمعية، لمناهضته، من خلال مقاربة شاملة لواقع معايير الحكم الرشيد، ودور هيئات النزاهة، وتحديد مواطن الانحراف، في عمل مؤسسات الدولة في الأقطار العربية، عن طريق طرح إشكاليات المساءلة والشفافية، واستقلال القضاء، وحسن إدارة الشأن العام، والرقابة على المال العام، وكل ما من شأنه أن يساهم أو يؤثر في تعزيز سيادة القانون والحكم الصالح.
الندوة التي عقدت هذا العام، تحت عنوان: «تعارض المصالح في الدولة والمجتمع»، تأتي استكمالاً للندوة التي عقدت في العام الماضي تحت عنوان: «الفساد وإعاقة التغيير في الوطن العربي». وقد كان لي شرف المشاركة فيها أيضاً.
وفي هذا العام، كما في العام الماضي، يُلحظ هيمنة الأوضاع في لبنان على الأوراق والمناقشات، التي طرحت في الندوتين، على رغم أن صفة المنظمة، تتعدى حدود لبنان لتشمل الوطن العربي بأسره.
ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال، أن القائمين على الندوة لم يكونوا يستهدفون معالجة واقع الفساد بالبلدان العربية، ولكن لثقل الحضور اللبناني وكثافته في الندوتين، وانعقادهما في بيروت، فرضت أحكامهما، على الأوراق والمناقشات التي جرت في الندوتين. وتلك ملاحظة ينبغي التنبه إليها مستقبلاً، في الندوات الرئيسية القادمة. ويمكن تجاوز ذلك بتداول عقد الندوات في بلدان عربية مختلفة.
الملاحظة الثانية، على هذه الندوة والندوة التي سبقتها، أن من كتبوا الأوراق، تصرفوا كأن الفساد موضوعاً مستقلاً عما يجري من تغيرات دراماتيكية بالوطن العربي، وبشكل خاص، خلال السنوات الخمس الماضية.
من يلقي نظرة على معظم الأوراق التي قدمت إلى الندوة الأخيرة، يحسب أن الوطن العربي، يعيش في استقرار نسبي يحسد عليه. وأن المعضلة التي يعانيها، تكمن في قصور هنا وهناك، يعالج بالشفافية والمحاسبة، ومراقبة المال العام.
المعضلة التي ينبغي مناقشتها في سياق هذه المرحلة، تتعدى كثيراً هذه الأمور، إنها تتعلق بوجود الوطن العربي ذاته. وذلك أمر نحسب أنه يطغى كثيراً على الواقع المعيش الآن.
لقد شملت مشاريع التفتيت العربية، حتى هذه اللحظة، ستة أقطار عربية، تعيش الآن واقع الحروب الأهلية. ولم تعد في تلك الأقطار سلطات مركزية، قادرة على إدارة شئون الدولة والمجتمع.
في العراق، لا تسيطر الدولة المركزية على خمسين في المئة من العراق. فالشمال أصبح بحكم الأمر الواقع، مستقلاً عن المركز. ومحافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار، تكاد تكون جميعها خارج سيطرة الدولة. والوضع في سورية أصعب بكثير من الوضع في العراق. ولا يختلف الأمر كثيراً عن ذلك في ليبيا، الدولة التي أسقطت بفعل تدخل الناتو. أما اليمن فحدث ولا حرج. والسودان جرى تقسيمها فعلياً، وحصل الانفصاليون الجنوبيون على الصفة القانونية، والتأييد الدولي. والصومال بقي يراوح في حال الفوضى والعنف، لما يقرب من عقدين، ولا توجد أي مؤشرات على وجود حل قريب لأزمته.
تزامنت هذه الفوضى، مع تغول لمنظمات الإرهاب التي لا تعترف بالدولة ولا بالقوانين المدنية، وليس في معتقداتها مكان للشفافية والمحاسبة. وهذه التنظيمات متواجدة على الأرض، بنسب مختلفة، في أكثر من عشرة بلدان عربية. فكيف يستقيم الحديث عن الشفافية والمساءلة في عالم تسوده الفوضى، ولا يعترف بالقانون ولا بالمؤسسات التشريعية والتنفيذية، بل لا يتعامل مطلقاً مع لغة العصر، حيث يستمد مشروعيته، من التشرنق في الماضي السحيق، بتفسيرات جامدة ومتبلدة.
تبدو اهتمامات القائمين على الندوة، كأنها تحلق في فضاء آخر، وتمارس رفاهية ذهنية، لا يسمح بها الواقع العربي المرير. فهناك ما يقرب من ثلاثين مليون عربي، شردوا من ديارهم، وليس لهم مأوى أو مأكل أو ملبس يليق بالكرامة الإنسانية. آخر التقارير تحدثت عن ثلاثة عشر مليون طفل عربي، من دون مدارس، بسبب الأوضاع المهترئة، وحالة التشرد التي يعيشونها في بلدانهم.
ولبنان ذاته، المستقر نسبيّاً يعاني تبعات لجوء السوريين على أرضه، ويشاطره الأردن، الذي يحتضن أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ من العراقيين والسوريين.
ليس الهدف من هذه القراءة النقدية، التقليل من الجهود الكبيرة، المشكورة، التي بذلت لكي تنجح هذه الندوة، بل التنبيه، إلى أن هناك قضايا جوهرية أكثر وجاهة، يعيشها الآن الوطن العربي، وهي مواضيع متصلة بعمل المنظمة العربية لمكافحة الفساد، ليس أقلها معالجة تداعيات تشرد أكثر من ثلاثين مليوناً من ديارهم على مستقبل التنمية بالوطن العربي، وتأثير ذلك في ارتفاع معدلات الجريمة، وانتشار الفقر، والأمراض. ومثل ذلك إقفال آلاف المدارس، وحرمان الأطفال من التعليم، وما يتسبب به ذلك من انهيارات في الجسد العربي. فعسى أن تكون هذه القضايا، موضع اهتمام، ليس من قبل الجمعية العربية لمكافحة الفساد فقط، وإنما من قبل جميع المهتمين بالشأن العام، والمتطلعين إلى غد عربي أفضل.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4766 - الخميس 24 سبتمبر 2015م الموافق 10 ذي الحجة 1436هـ
يأتي المنتدي بأجنده وحدود معده له سلفا
فلا يستطيع تجاوزها او مصيره معروف كحال رؤساؤنا يعني مو بعلى كيفهم .