حتى أيام قليلة سبقت انعقاد المؤتمر العالمي 16 لمكافحة الفساد والمقرر عقده في العاصمة الفيدرالية لماليزيا بوتراجايا، فقد كان الشك في انعقاده سيد الموقف، وذلك بسبب تفجر فضيحة دعوى استيلاء رئيس الوزراء الماليزي نجيب عبدالرزاق على ما يقارب 700 مليون دولار، من أموال عامة، وهو ما فجر بدوره موجة من الاحتجاجات الغاضبة، والتي تحولت إلى حركة جماهيرية تحت شعار «نظيف أو أصحاب القمصان الصفر» والتي جذبت مئات الألوف في تظاهرات احتجاجية كل يوم سبت في ساحة الاستقلال، وكانت أكبر مظاهرة احتجاجية هي تلك التي صادفت الاحتفال بعيد الاستقلال، حيث رفضت السلطات الأمنية في البداية التصريح بها، لكنها وأمام واقع احتلال ما يزيد على 200 ألف من المحتجين ساحة الاستقلال، فقد سلمت بالأمر.
وفي ظل هذه التطورات، فقد جرت مشاورات حثيثة فيما بين الشفافية الدولية وفرعها الماليزي ومجلس المؤتمر، والمضيف الماليزي الرسمي بقيادة دانوك علي، نائب الهيئة الماليزية لمكافحة الفساد، واتفق على المضي قدماً في عقد المؤتمر خلال 2 - 4 سبتمبر في مقر المؤتمرات في العاصمة الفيدرالية الماليزية بوتراجايا، بل إن الجمعية الماليزية للشفافية طالبت بإلحاح لعقد المؤتمر لأنه سيشكل داعماً لها وداعماً للحركة الاجتماعية الجماهيرية.
وقد تشكل وفد الجمعية البحرينية للشفافية من: سيد شرف الموسوي (رئيس الجمعية) وجاسم حسين وعبدالنبي العكري عضوي الجمعية. ومنذ الوصول إلى المطار الدولي تشعر أنك في بلد حضاري منظم وراقٍ. ولم يستغرق الأمر طويلاً حتى كنا مع وفود أخرى في الباص لنقلنا إلى فندقنا حيث سبقنا سيد شرف الموسوي للمشاركة في مؤتمر الشفافية الدولية وحضرنا جميعاً الحفل الختامي للمؤتمر. حيث أعلنت فيه نتائج مؤتمر المرشحين لجائرة أمالي كونكرم حيث فازت الأسترالية ماجي مورفي عن فئة نشطاء الشفافية الدولية نتيجة إصرارها على كشف المسئولين الأستراليين لذمتهم المالية ضمن حركة واسعة وفاز البريطاني مارك بايمن عن فئة التميز في العمل وهو المدير التنفيذي للفرع البريطاني للشفافية والذي أشرف على إصدار التقرير السنوي العالمي عن الفساد في قطاع الدفاع والأمن، والذي اكتسب أهمية ومصداقية كبيرة وأضحى مرجعاً يعتدّ به للباحثين عن الحقيقة في هذا القطاع.
كما منح المتنافسون الستة للفئتين شهادات تقديرية وقد صادف أن كان بايمن على طاولتنا والتي تحولت إلى منصة لتلقي التهاني.
في اليوم التالي 2 سبتمبر انطلق ما يزيد على 1300 مشارك إلى مقر المؤتمرات، وهو مبنى جميل قائم على تلة مرتفعة، ويطل على بحيرة يوترا جايا، حيث كان ينتظرهم جدول أعمال حافل على امتداد الأيام الثلاثة حيث تبدأ الجلسات الساعة 8:30 صباحاً وتنتهي الساعة 8 مساء، وتتخللها استراحة للغداء لمدة ساعتين، لا تخلوا أيضاً من الاجتماعات الجانبية من الأجواء المصاحبة للأزمة الناشئة عن تفجر فضيحة الفساد والتي بدورها فجرت أزمة سياسية، حيث تعدت مطالب حركة نظيف، التحقيق المستقل في القضية، خصوصاً بعد قيام رئيس الوزراء بعزل المدعي العام، إلى المطالب باستقالة رئيس الوزراء، وتشكيل وزارة تصريف أعمال من شخصيات مستقلة، تمهيداً لإجراء انتخابات عامة مع المضي في التحقيق وتوجيه اتهام رسمي لرئيس الوزراء، عكست أجواؤها بقوة على المؤتمر، حيث كان كبار الحكومة وعلى رأسهم وزير الدولة في مجلس الوزراء المكلف بملف الإصلاح ومكافحة الفساد السناتور دانوك بول لو، وهو واحد من ثلاثة وزراء تكنوقراط في حكومة نجيب عبدالرزاق، ودانوك مظفر علي نائب رئيس الهيئة الماليزية لمكافحة الفساد، والسناتور دانو سرى عبدالواحد عمر، وزير الدولة في مجلس الوزراء المسئول عن تحديث الاتصالات، وتنكو عبدالعزيز إبراهيم رئيس هيئة مستشاري الهيئة الماليزية لمكافحة الفساد (MACC) من ناحية وممثلو الجمعية الماليزية لمكافحة الفساد وفي مقدمتهم أكبر ستار رئيس فرع الشفافية الدولية - ماليزيا وعدد من الشخصيات العامة وممثلو المجتمع المدني، وبالطبع ممثلو المؤتمر والشفافية الدولية ومنظمات دولية مهمة مثل العفو الدولية ممثلة برئيسها سليل شيتي والشاهد الدولي - وكاريخي، وغيرهم والذين وقفوا إلى جانب الفرع الماليزي للشفافية الدولية في مطالبته باستئصال الفساد والاحتكار في الحياة السياسية الماليزية حيث انفردت رابطة جميع الماليزيين بالحكم منذ الاستقلال في 1957.
ولقد كانت القضية المتهم فيها رئيس الوزراء والذي ادعى أنه حصل على ما يزيد على 700 مليون من دعم خليجي لحزبه وهو عذر أقبح من ذنب، وما يرتبط بذلك من فساد في الدولة رغم النجاحات الهائلة التي تحققت في ماليزيا والتي نقلتها من بلد بدائي يعيش على تصدير المطاط الخام، إلى دولة صناعية متطورة ضمن النمور الآسيوية، وفي الإطار الأوسع الذي انعقد المؤتمر تحت شعاره وهو «عدم الإفلات من المحاسبة» بفضل نضال الناس من أجل اتخاذ إجراءات ملموسة لضمان النزاهة في العالم أجمع، هو ما شغل المؤتمرين، طوال الثلاثة أيام من الصعب تلخيص أعمال المؤتمر، ولكن يمكن القول إن أعمال المؤتمر شملت عقد خمس جلسات عامة إضافة إلى الجلسة الافتتاحية والجلسة الختامية، وورش عمل بمعدل بين 4 إلى 6 ورش في وقت واحد ولثلاث فترات يومياً أي ما يصل أحياناً إلى 18 ورشة عمل يومياً.
ولقد عمل أعضاء وفد الجمعية البحرينية للشفافية على التوزع على أهم الورش إضافة بالطبع لحضور جميع الجلسات العامة والإسهام فيها بشكل فاعل من خلال المداخلات والنقاشات وخصوصاً أنه الوفد الأهلي الخليجي الوحيد وللأسف، كانعكاس لحالة التضييق على منظمات المجتمع المدني، وخصوصاً في مجالي الحقوق والشفافية ومن القضايا التي استأثرت باهتمام المؤتمر هي: الترابط بين الفساد من ناحية وإحباط التنمية في البلدان النامية بشكل خاص، وكذلك حرمان المواطنين والسكان عموماً من حقوقهم الأساسية في التعليم والصحة والعمل والعيش اللائق، بل ويسهم في انهيار الدولة وفشلها وهو ما أدى في العديد من البلدان النامية إلى النزاعات المسلحة بل والحروب الأهلية، وأبرز تجسيد له ما جرى في مسلسل ما يعرف بـ «الربيع العربي»، حيث أدى فشل الدولة إلى انتفاضات وثورات، القليل منها أدت إلى تغيير إيجابي كما في تونس والمغرب، والأكثرية إلى حرب أهلية كما في اليمن وسورية وليبيا، واضطرابات كما في لبنان والبحرين. وقد قدر خبير في منظمة الأمن والتعاون الخسائر الكلية للاقتصاد العالمي من جراء الفساد بما يتعدى 4.5 تريليونات دولار، فيما قدر رئيس جنوب إفريقيا السابق، ورئيس لجنة فض المنازعات الإفريقية توبو امبيكي، بأن كلفة الفساد المباشرة في إفريقيا سنوياً تتجاوز أربعة أضعاف ديون إفريقيا.
أما المحور الثاني في أعمال المؤتمر فهو الترابط بين الفساد الكبير وحرمان شعوب بأكملها من حقوقها، والتواطؤ بين الدول الكبرى وخصوصاً تلك المصدِّرة للسلاح والأنظمة الاستبدادية في دول العالم النامي، ومثال ذلك صفقات السلاح الغربية الضخمة لدول مجلس التعاون الخليجي، والتي تتم على حساب حقوق المواطنين والمقيمين وسكوت الغرب عن الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان في هذه المنطقة المصدِّرة للنفط والمال.
المحور الثالث في المؤتمر ذلك المتعلق بالإفلات من المحاسبة والعقاب لكبار المفسدين في الدولة والقطاع الخاص، وذلك على رغم اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، واتفاقية منظمة الأمن التعاون والتنمية للنزاهة، واتفاقية بازل لمكافحة غسيل الأموال في القطاع المصرفي وترسانة القوانين الوطنية المتعلقة بمكافحة الفساد ومن أجل النزاهة والشفافية، حيث لا يقتصر الأمر على فساد في مختلف القطاعات الوطنية، بل يتعدى ذلك إلى الفساد في العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية في ظل عولمة الاقتصاد.
وهنا طرحت مقترحات، بأنه في ظل فشل النظام الوطني في محاسبة الفاسدين، فإنه يتوجب إحالة حالات الفساد الخطيرة إلى المحاكم الإقليمية، فيما اقترح البعض تعديل نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، ليشمل مرتكبي أعمال الفساد الخطير، والتي تتسبب في الحروب والموت والتشرد وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، وبذا تعتبر جرائم حرب ضد الإنسانية، فيما تعتبر أعمال الفساد الخطيرة، أنها أحد الأسباب الرئيسية للجرائم ضد الإنسانية، وعنصراً في صحيفة الدعوى بحق المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية. المحور الرابع تركز حول كيفية تشكيل تحالف دولي من الدول المخلصة لمكافحة الفساد وطنياً ودولياً، والمؤسسات الدولية المعنية وفي مقدمتها مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والجريمة في فيينا، والحركة العالمية لمكافحة الفساد والتي تقودها منظمة الشفافية الدولية، والأكاديمي والقطاع الخاص، وهذا يتطلب الانطلاق من القاعدة أي على المستوى الوطني بتشكيل تحالف في كل بلد بين المجتمع المدني والقطاع الخاص والأكاديمي، والبرلمانيين، والذي يجب أن يضغط على كل من الحكومة والسلطة التشريعية والقطاع الخاص بتبني استراتيجية لاستئصال الفساد ومحاسبة الفاسدين، وإشاعة الشفافية والنزاهة في مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والمعلوماتية وغيرها.
كثيرة هي القضايا التي دارت حولها حوارات جدية وبناءة حيث شكل المؤتمر وقفة لتقييم الجهد البشري المخلص لمواجهة وباء الفساد المستفحل وجرائم الفاسدين، وبتني خطة تسهم في دعم الاستراتيجية العالمية للتنمية المستدامة لما بعد 2015 والتي تستقر في قمة الأمم المتحدة في نيويورك هذا الشهر كما أنها وقفة لتجديد عزم المجتمع المدني، بموقف حازم في مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والمقرر عقده في مدينة بطرسبورغ في روسيا في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل 2015.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4760 - الجمعة 18 سبتمبر 2015م الموافق 04 ذي الحجة 1436هـ
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
لا عذاب كعذاب الله ولا عقاب كعقابه وهو أعلم بخلقه وأعلم بما يؤلمهم وكيف يؤلمهم فهو شديد العقاب وهو المنتقم الجبار : نعم هو الغفور الرحيم ولكن رحمته لا تتعدّى بحيث يصفح عن الظالم( إن تجاوزت عن ظلم ظالم فأنا الظالم)
وقال تعالى (ويوم يعض الظالم على يديه )
لايايبه القانون لايطالنا ولايطالكم
إذا القانون طال الجميع صار مساواة وعدل وذي ميصير .