بتحول رئاسة اتحاد المغرب العربي إلى ليبيا غير الراغبة فيه، وبفشل قادة الدول الخمس في الاجتماع في الجزائر، يكون الاتحاد دخل مرحلة الموت الإكلينيكي بعد 15 سنة من تأسيسه، انعقدت فيها القمة لست مرات كان آخرها ربيع العام 1994 في تونس، بعد أن حالت المشكلات الكبرى العالقة بين دوله في الدفع به إلى الأمام بفعل انعدام الرؤية الواضحة للخيار المغاربي من جهة، واختلاف أنظمة الحكم بين ملكية وجمهورية وجماهيرية، والتباين الشديد على جميع المستويات السياسية منها والاقتصادية والأمنية.
العام 2003 الذي شد فيه الانتباه عربيا الغزو الأنجلو - أميركي للعراق وقلب نظام الحكم فيه، كان عام النكبات المغاربية وبامتياز خصوصا في نصفه الثاني بعد أن هدأت زوابع الحرب في أرض الرافدين. فبالإضافة إلى العداء الطبيعي بين الغريمين الرئيسيين في الاتحاد (المغرب والجزائر) بفعل النزاع في الصحراء الغربية، الذي غذته مقترحات المبعوث الأممي الخاص للمنطقة الأميركي جيمس بيكر، والذي أضيف إليه النزاع الحدودي بين البلدين بعد أن دعت جهات مغربية إلى تحرير ما تعتبره بالجزائر المغربية الشرقية، ظهر خلال النصف الثاني من السنة التي نودعها خلافا موريتانيا ليبيا إثر اتهام نواكشوط للقيادة الليبية بدعم انقلاب «ولد حنانا» بداية شهر يونيو/حزيران الماضي، وبتمويل مخطط انقلابي آخر كان من المتوقع أن يقوده بحسب الرواية الموريتانية الرسمية مرشح الرئاسيات ولد هيدالة.
ملف الصحراء العصي
يمكن القول إن النزاع في الصحراء الغربية الذي بدأ منذ سنوات الذي أخذ لقب أحد أقدم النزاعات الافريقية والعربية وربما الدولية كان بمثابة العصا التي منعت العجلة المغاربية من الدوران وبالتالي رهنت مستقبل المنطقة التي تحين مواطنوها منذ السنوات الأولى للاستقلال الفرصة نحو الاتحاد والاندماج.
وإذا كان سكان المنطقة قد استبشروا خيرا بالحل الثالث الذي طرحه الأميركي بيكر والقاضي بمنح سكان الصحراء حكما ذاتيا موسعا ضمن السيادة المغربية، والذي وافقت عليه الرباط وعارضته في حينه الجزائر وجبهة البوليساريو، فإن الأمور سرعان ما انتكست إثر تقدم بيكر بخيار رابع يقضي بمنح الصحراويين حكما ذاتيا لمدة خمس سنوات، بعدها يستفتون في تقرير مصيرهم، وهو ما عارضه المغرب جملة وتفصيلا، بدعوى أن مخطط الاستفتاء تم تجاوزه منذ زمن بسبب فشل طرفي النزاع في تحديد هوية من يحق لهم المشاركة في العملية الاستفتائية، بالإضافة إلى أن إقامة إدارة صحراوية تشرف على حكم ذاتي في المنطقة لمدة خمس سنوات يغير الواقع الحالي في المنطقة لصالح أطروحة الانفصال.
ولكن مسارعة البوليساريو ومن ورائها الجزائر إلى الترحيب بهذا الحل الذي يتعارض مع وحدة التراب المغربي، لم يجلب سوى غضب الرباط التي أعلنت على لسان الملك محمد السادس وفي أكثر من مناسبة معارضتها لأي حل يتعارض مع السيادة المغربية على الصحراء التي باتت من أكثر المناطق تنمية في المملكة، وفق التقرير الأخير للأمم المتحدة الخاص بالتنمية الاجتماعية، بفضل الجهود التي بذلتها المغرب منذ تحريرها العام 1975 من الاحتلال الإسباني.
العاهل المغربي وخلافا لما كان معتمدا في السابق وجه في عدد من خطبه خلال السنة الماضية اتهامات مباشرة للجزائر بالوقوف خلف النزاع الصحراوي الذي وصفه بالمفتعل، محملا إياها مسئولية تعثر مسيرة الاتحاد المغاربي، وهو ما رد عليه الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة باتهام الرباط باحتلال الصحراء الغربية، مشبها ذلك بـ «الاحتلال العراقي للكويت» العام 1990، مستغربا من عدم التدخل الدولي على شاكلة ما حدث خلال عاصفة الصحراء.
وفي خطوة مغربية اعتبرها المراقبون أنه يراد بها شغل الجزائر بالدفاع عن سيادتها على «الصحراء الشرقية» وإبعادها عن التدخل المستمر في «الصحراء الغربية»، قادت جهات مغربية غير حكومية حملات إعلامية وسياسية تدعو إلى فتح ملف الأراضي المغربية التي ضمتها فرنسا للجزائر خلال احتلالها للمنطقة في القرن الماضي، وهو ما دفع بالجزائر إلى الاحتجاج رسميا على ذلك باستدعاء السفير المغربي لديها، ما فتح الباب أمام حرب إعلامية بين الجانبين اتهمت خلالها الصحف الجزائرية الجانب المغربي بدعم منظمات مسلحة انفصالية في الغرب الجزائري، ليتعدى الأمر ذلك بفتح ملف ما أسمته هذه الصحف بـ «المعارضة المغربية في المنفى» وملف المخدرات المغربية العابرة للحدود الجزائرية، وتهريب البترول الجزائري بأسعار بخسة إلى الأسواق المغربية المجاورة. أما الصحف المغربية فاتهمت الجانب الجزائري بالإشراف على تعذيب أسرى الحرب المغاربة لدى البوليساريو من خلال مقابلات صحافية مع عدد من المفرج عنهم، أو مع عدد من مسئولي جبهة البوليساريو العائدين إلى المغرب.
السباق نحو التسلح
ملف التسلح بين الجزائر والمغرب دخل أيضا حلبة المشكلات المغاربية، ليصبح من الملفات الحساسة التي حالت دون تحريك الاتحاد المشلول، بعد أن غرس بذور الشك والريبة بين البلدين الرئيسيين في المغرب العربي.
فالجزائر المزهوة بعائدات البترول الذي ارتفعت أسعاره في الفترة الأخيرة، بادرت إلى توقيع صفقات للتسلح مع عدد من دول المنظومة الاشتراكية السابقة وعلى رأسها أوكرانيا والاتحاد الروسي، وتمثلت الصفقات بالأساس في تجهيز الجيش النظامي الجزائري بطائرات الميغ وبالأسلحة الثقيلة، والبدء في مشروع «الطائرة الروسية الجزائرية المقاتلة» المشترك.
السباق الجزائري نحو التسلح والذي اعتبرته الرباط أنه لا يمكن أن يكون موجها إلا إليها تحديدا باعتبار أنها الجهة الوحيدة التي لديها خلافات مباشرة وعميقة مع الجزائر في المنطقة، أدى بالمسئولين المغاربة إلى حذو الاتجاه نفسه، فكان الرد بإبرام صفقات للتسلح مع كل من فرنسا والصين والهند، هذا من دون إغفال الدعم الأميركي المستمر للترسانة العسكرية المغربية التي دعمت السنة الماضية بما يزيد عن 20 مقاتلة أميركية من طراز إف 15 أهدتها للرباط الحكومتان السعودية والإماراتية، وهو الأمر الذي أثار زيادة على الحنق الجزائري حنق الجيران الاسبان باعتبار أن طائرات إف 15 قد تخل بالتوازن العسكري في المنطقة.
زيادة على التسلح المستمر بين الجزائر والرباط والمعلن عنه، فتحت أخيرا الصحف الجزائرية ما اعتبرته «ملفا للتعاون العسكري والاستخباراتي بين المغرب و«إسرائيل» بموجبه تضع وزارة الدفاع الإسرائيلية أقمارها التجسسية العسكرية في خدمة المؤسسة العسكرية المغربية، بالإضافة إلى تزويد القوات المسلحة الملكية المغربية بأسلحة من نوع صواريخ «سايدونيدر» و«سبارو» و«شافرير» و«باثيون3» و«إم -48 أشابارال» لم تزد قيمتها الإجمالية عن المليار دولار وفقا لوسائل الإعلام الجزائرية بعد أن باعتها «إسرائيل» للمغرب بمبالغ «تفضيلية».
وبالتالي فإن سيادة الريبة والتوجس بين المغرب والجزائر من الأسباب الرئيسية لعدم تحريك مياه المغرب العربي الراكدة التي تحتاج إلى من يرمي بحجرة فيها بقصد تحريكها.
نواكشوط وطرابلس تدخلان على الخط
بالإضافة إلى العداء المستحكم بين المغرب والجزائر، توّلدت معضلة أخرى لتزيد من نكبات هذا «الاتحاد»، وذلك بتفجر العلاقات بين النظام «الثوري» سابقا في طرابلس، ونظام نواكشوط «الموالي» للغرب. أولى فصول هذا التوتر كانت قبل سنوات، بعد توقيع نظام الرئيس معاوية ولد الطايع لمعاهدة سلام مع «إسرائيل»، وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الجانبين، وهي الخطوة التي أثارت غضب القذافي الذي اعتبرها غير مسئولة وخروجا عن الصفين العربي والمغاربي.
وبحلول النصف الثاني من العام الماضي دخلت العلاقات منعطفا خطيرا، بالعملية الانقلابية التي هزت موريتانيا بداية شهر يونيو الماضي والتي شطرت المغرب العربي، شطر داعم لنظام ولد الطايع قادته الرباط، والذي وصل إلى حد الدعم اللوجيستي للقوات المسلحة الموريتانية، بل إن أنباء أشارت إلى دعم عسكري مغربي مباشر غير معلن. وشطر داعم للانقلابيين، تمثل في طرابلس التي أعلنت جهات نافذة فيها دعمها الصريح لقوات العقيد صالح ولد حنانا.
بالإضافة إلى شطر تفهم نوايا الانقلابيين وتعاطف معهم ممثلا في الجزائر من دون أن يرتقي الأمر إلى مدهم بأية مساعدات أو الإدلاء بتصريحات تسير في هذا الاتجاه، وإن ترجم ذلك في الطريقة التي تناول بها الإعلام الجزائري للحدث.
وما ان بدأت غيوم الخلاف الليبي الموريتاني في الانقشاع، حتى أصدرت السلطات الموريتانية عشية انعقاد القمة الملغاة بيانا يتهم ليبيا بدعم ولد هيدالة ماليا للقيام بتمرد على ما أسمته بالشرعية في حال فشله انتخابيا، وهي الاتهامات التي لم ترد عليها ليبيا.
الفرج من بروكسل - واشنطن
على أي حال فإن اتحاد المغرب المغربي الذي فشل قادته في الاجتماع منذ العام 1994 دخل مرحلة الموت «الإكلينيكي» بفشل ذريع لرؤساء دبوماسيته بعد أن تعذر عليهم تعيين تاريخ محدد للقمة المقبلة، وبتحويل رئاسته إلى ليبيا التي أعلن زعيمها خلال اجتماع قمة (55) أن «اتحاد المغرب العربي وضع في الثلاجة»، وبالتالي يحتاج إلى معجزة لن تأتي إلا عبر بوابتين لا ثالث لهما، إما عبر بروكسيل ممثلة في الشراكة الأوروبية، أو عبر واشنطن ممثلة في مشروع (إيزنشتات) للشراكة المغاربية الأميركية، وهما الجهتان اللتان لا تريان أية فائدة في التعامل مع كل دولة مغاربية على حدة، وهو ما تم التعبير عنه بشكل صريح خلال شهر ديسمبر/كانون الأول في مناسبتين، الأولى خلال جولة وزير الخارجية الأميركي كولن باول على ثلاثة بلدان مغربية، تونس والجزائر والمغرب، والذي طالب بمغرب موحد ومستقر، والثانية تمثلت في قمة غرب المتوسط (55) التي دعا خلالها زعماء شمال الحوض إلى ضرورة توحيد الشطر الجنوبي واستقراره، حتى تمكن للدول الخمس من الانخراط في شراكة اقتصادية مع دول الاتحاد الأوروبي
العدد 476 - الخميس 25 ديسمبر 2003م الموافق 01 ذي القعدة 1424هـ