قطعت التجارب الديمقراطية الغربية، وعلى الأخص الاوروبية، شوطاً كبيرا من النضج والتطور عبر بضعة قرون منذ انطلاقاتها، وانعكس هذا التطور على نضج وعي شعوبها الديمقراطي بمختلف فئاتها وطبقاتها، وهذا ما لم يصل إليه وعي شعوب الدول النامية التي مازالت تجاربها الديمقراطية فتية، وهي إما شكلية متدنية السقف أوغير مستقرة بل كثيراً ما يتم وأدها أو الإجهاز على مكتسباتها المتقدمة نسبياً إن أمكن ذلك من قِبل الأنظمة التي اضطرت إلى قبولها تحت ضغط الحركات المطلبية لشعوبها.
لكن الوعي الديمقراطي لشعوب دول العالم الثالث، وعلى وجه الخصوص البلدان العربية والاسلامية والافريقية مازال يعكس درجة تطور البنية الاجتماعية المتخلفة لتلك البلدان. وبالتالي فلا غرو إذا ما كان الوعي الطائفي أو القبلي أو الإثني أو المناطقي هو الذي يحدد خيارات الناخب، حتى لو جاء هذا الخيار على الضد من مصلحته الانتخابية المعيشية والسياسية الحقيقية، ومن ثمَ تسببت في وصول مرشح غير كفوء إلى البرلمان ما دامت هوية هذا الأخير الفرعية تحظى بالاولوية لدى الناخب وترضي هواه.
على ان هذه الاشكالية لا نكاد نلمسها لدى الناخب الغربي ذي الوعي الانتخابي الأكثر نضجاً من الناخب في الدول العربية والاسلامية، فمن النادر أن يدقق الأول في هوية المرشح الإثنية أو القومية او الدينية أو الطائفية أو المناطقية، حيث يدخل مختلف المرشحين، مستقلين وحزبيين، في منافسة متكافئة حقيقية ببرامجهم لحلول مشاكل المواطنين وفي برهنة مدى مصداقيتهم في القدرة على تمثيل مطالبهم الآنية والمستقبلية، أياً تكن انتماءاتهم القومية والدينية والطائفية المتباينة. ولذلك وجدنا، حتى بالرغم مما تعيشه المجتمعات الغربية من فوبيا آخذة في التزايد من الاسلام والمسلمين والعرب منذ نحو عقدين، نماذج عربية ومسلمة عديدة من الجنسين وصلت الى كراسي برلمانات الدول الاوروبية او حظيت بالتوزير في حكوماتها بفضل اندماجهم الحقيقي في مجتمعاتهم الاوروبية وقدرتهم على تقديم برامج جذّابة منافسة سواء بشكل مستقل أو من خلال الاحزاب التي ينضوون تحت ألويتها.
لكن بقدر ما نجد هذا الوعي لدى الناخب الانتخابي يتسم بالنضج السياسي في تصويته للمرشحين في الانتخابات النيابية والبلدية والرئاسية، وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بالقضايا المحلية، فإن هذا الوعي ليس هو كذلك فيما يتعلق بالسياسات الخارجية لدولهم ويكاد الاهتمام بها لديه يكاد يكون معدوماً أو نادراً. ولو أدرك الناخبون الغربيون بما تتركه السياسات الخارجية لحكوماتهم من سلبيات حتى على أوضاعهم المعيشية والأمنية الداخلية لكانت في صلب اهتماماتهم الانتخابية، ولتساوت أهميتها لديهم بنفس أهمية القضايا المحلية. وفي هذه المسألة تحديداً بوسعنا ان نسرد تاريخاً طويلاً من الأمثلة لسوء السياسات الخارجية لعدد من الدول الغربية تجاه الدول العربية والاسلامية وما أفضت إليه من ارتدادات وانعكاسات أمنية واقتصادية على أوضاعها الداخلية، وهذا ما حدث ليس خلال الحقبة الاستعمارية فحسب، بل وخلال صعود المقاومة الفلسطينية. فعلى سبيل المثال في فترة خطف الطائرات الاسرائيلية المدنية واحتجاز المنتخب الاسرائيلي في ميونيخ بواسطة منظمة ايلول الأسود في أوائل سبعينيات القرن الماضي، فلم تكن تلك الاحداث مفصولةً عن السياسات الخارجية للدول الغربية الكبرى المتساوقة مع السياسات الاميركية والمؤيدة والداعمة بقوة لاسرائيل. وهذه الدول الغربية الكبرى نفسها تُحمّل شعوبها الآن بما لا طاقة لها اقتصاديا من تبعات الهجرة العربية الهائلة غير الشرعية، وعلى الاخص السورية، وما ذلك إلا لأنها، الى جانب عوامل اخرى، ساهمت بسياساتها المنساقة خلف واشنطن في تعقيد وتضخيم الأزمة السورية منذ تفجرها في ربيع 2011 حينما شجعت على عسكرة الانتفاضة الشعبية السلمية ضد نظام بشار الأسد وفتحت الحدود السورية- التركية لدخول الجماعات الارهابية المسلحة المتعددة الجنسية باسم دعم المعارضة السورية وتخليص الشعب السوري من نظام بشار الدكتاتوري ليحل نظام ديمقراطي محله بأقصى سرعة ممكنة، دون التمعن والدراسة مقدماً لمدى قدرات النظام الشرسة الهائلة في الحيلولة دون سقوطه، ودون التبصر مقدماً أيضاً حتى باحتمالات وقوع السلطة تحت حكم تلك الجماعات الارهابية لو تحقق هدف اسقاط النظام سريعاً كما كانت ومازالت تطمح إليه هذه الدول الغربية ومن خلفها الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة العربية.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4757 - الثلثاء 15 سبتمبر 2015م الموافق 01 ذي الحجة 1436هـ