لا يُخفِّف من صَلَف الواقع - أحيانا - إلا رَصْده وكتابته، والنظر إليه باللغة الشعرية المُكتنزِة باستنطاقها، وقدرتها على الإدهاش والكشف عن جمالياتها المخبوءة؛ جنباً إلى جنب كشْف القبْح المستشري في ذلك الواقع. كثير من جماليات اللغة تعمل عملها في التخفيف من استقبالنا لقبْح الواقع أحياناً، وأحياناً تقدِّمه لنا في درجاته القصوى؛ وفي ذلك براعة مُؤكَّدة. براعة مُؤكَّدة بالمُكاشفة لأطراف تُحييهم، وأخرى تُحيلهم إلى الهلاك.
لا تجيد اللغة الأمينة والحافظة لشعريتها خيانة ذلك الواقع، والقفز على مآسيه وتجاوزاته، والعبث بواقع الإنسان ومصيره. ستكون لحظتها أداة من أدوات التغييب والقمع، وشرْعَنته أيضاً. إنها المصدُّ الأخير الذي يذهب إلى التعرية وقد أيقن النهايات التي يستحقها، وتليق به؛ ولن تكون نهايات بقدر ما هي مُفْتَتح البدايات. لا يمكن لتلك اللغة أن تمنح حياة لمقبرة، ولا يمكنها أن تمنح حيوية لجثة، كما لا يمكنها أن تمنح قيمة للتفاهة على اختلاف مستوياتها ومسمَّياتها، بالمستوى نفسه الذي لا يُمكنها فيه ومن خلاله أن تمنح قيمة ومعنى لعدم ومجهول.
ثم إنه لا يُمكن أن يكون مُريحاً الرصْد والكتابة والنظر إلى ذلك الصَلَف بلغة ميتة أو مُعَاد تدويرها. ولن تُزيح تلك اللغة شيئاً من ذلك الصَلَف. اللغة التي تسمِّيه، وتقدِّم هيئته والهيئات التي يتوارى خلفها؛ من دون ألوان ومساحيق، أو حُزَم من التبريرات التي لا تَشِي إلا بالنزْع الأخير من الحياة.
وفي رثاء الأحياء؛ لا نذهب إلى الذين هم بين يديْ ربهم بجميل الصنيع، ونقاء السريرة، وطهارة المرامي التي أفنوا حياتهم من أجلها. فأولئك أحياء من دون شك، بكل ذلك التاريخ النقي والناصع؛ ولكننا في حدود معنى الذين هم من المُفترض أن يكونوا «أحياء» بين ظهرانينا. أولئك الذين يُمارسون موتهم اليومي باسم الحياة, وأولئك الذين تجرَّدوا من كل ما يدلُّ عليها، ويدلُّ على أنهم بشر أساساً. إنهم الأحياء الموتى الذين يحتاجون رثاء من نوع خاص يليق بهم وبأدوارهم المُدمِّرة. رثاء يقول حقيقتهم في الحياة من دون زيادة أو نقصان. وعلى مثل ذلك الرثاء أن يحتاط كثيراً في اختيار لغته.
وللضحايا رثاؤهم الخاص، وهم في غفْلة الحياة. بالطبيعة التي تأخذهم إلى الفطرة فَيَصْحون على أكثر من وحْش «يفترسُ» حياتهم، و «يفترشُ» الأرض احتلالاً لها كي يستعيد لياقته تحضيراً لمجزرة جديدة، وذلك ما يُجيده ويحترفه. ولا إجادة في ما يصنع الفناء!
هو نفسه الرثاء الذي صاغه الشاعر العربي محمود درويش، ذات مجزرة ضمن عشرات المجازر التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين المحذوفة من ذاكرة العرب الراهنة، والمجازر التي أضحَتْ نوعاً من رياضة المزاج، والترويح عنه. رياضة الذهاب في الغياب والغيبوبة والعدم أيضاً: «ليست مذبحة كفر قاسم يوماً للذكرى. وليست مرحلة يغلبها النسيان. إنها تاريخ كراهية ممتدٌّ منذ استلَّ هرتسل سيفه من التوراة وأشْهَره في وجه الشرق. فسكَّان هذه القرية المسحوقة المُهْمَلة لم يفعلوا شيئاً يثير غضْبَة أحد ولو كان عدواً متطوِّعاً. لم يقاتلوا إلا الطبيعة القاسية والبؤس الأسْوَد. فمن أجل ماذا ماتوا؟ لم يموتوا من أجلنا كثيراً. هم ضحايا لا شهداء. وتلك هي مأساتهم المزدوجة، وذاك هو حزننا المزدوج عليهم. في وسْعنا أن نقول لهم، ماتوا من أجل أن نُعمِّق كراهيتنا للظلم والاغتصاب، ومن أجل أن نُعمِّق عبادتنا للأرض».
بين رثاء الذين يذوون ويضمحلُّون في جحيم الاحتلال، وهم في انشغال ببساطتهم وعفويتهم، وأولئك الذين هم في معنى الاحتلال وفظاعاته؛ وإن جاءوا بمسمَّيات وطنية يتوهَّمون أنها تحصِّنهم من مسئولية المذبحة وتزوير الوجود؛ أو توهُّم التلاعب به. لكلٍ رثاؤه اللائق الذي لا يقول سوى اللعنات وإن لاذت بلغة الرمز في عالم مباشر وصريح في شهوة دماره واحتوائه!
مثل ذلك الرثاء هو الذي يُسمّي مواقع كل منَّا في حركة الحياة، والأدوار التي من المفترض أن يؤدِّيها بالفطرة والإيحاء؛ من دون حاجة إلى رقابة فردية أو جماعية تُعيده إلى موقعه الطبيعي بين بني البشر. الموقع الذي يصنع الفارق بين حياته وبين موته الشائع!
ولتلك النوعية من «البشر» رثاء «خاص» هم من وضعوا صيغته واللغة بأدائهم ومواقفهم واصطفافهم الشاذ عن الفطرة مع من يذبح البشر، وفي المحصِّلة، عملَ على «هرْس» الفطرة بل تذويبها ومحوها. رثاء أولئك سيتحدَّد في لعنات لديها القدرة على التجدُّد، وتنشيط الذاكرة وتحصينها من أخطر أعدائها: النسيان. نسيان الوباء والكوارث التي صُبَّت على رؤوس البشر صبَّاً بفعل أدائهم وخسَّة مواقفهم.
وثمة أحياء نستعد لرثائهم بما يليق، وفاء لهم، ولأدوارهم الفاعلة والفارقة والمهمة في الحياة. بقدرتهم على إحداث تغيير ولو كان بسيطاً يطول أرواحنا. بالأمل الذي يبثُّونه في أوساطنا وأمكنتنا وأزمنتنا اليائسة. لحفاوتهم بالحياة؛ على رغم الموت الشائع والتهديد الذي يتغلغل في الوقت والمكان. لقدرتهم على التضحية التي لا يخصِّصون أوقاتاً لها تُراعي المكاسب والأرباح. للبذل الذي يكاد لا ينتهي من أجل الآخرين وكأنهم وضعوا أنفسهم في عُهْدة النسيان، وهم في الصميم من الذاكرة والحضور.
في المناحات والعويل نذهب. لا مكان للفرح الشحيح بيننا لأننا مشغولون بإحصاء القتلى منا أو الذين ينتظرون. وحتى في الفرح الشحيح ثمة غول بأظلاف وأنياب سيخرّب لهونا العابر، وابتساماتنا المؤقتة، واستقرارنا الكاذب، وهدوءنا المصطنع، ونومنا المليء بالكوابيس، ورفاهيتنا الفادحة.
هذه الحياة باتت في حاجة إلى رثائنا؛ نحن الذين أتقنَّا تثبيت اضطرابها، والموت الذي نبتدع أشكالاً لا نهايات لها. لكن هل سنجد من يرثينا نحن المحسوبين على الأحياء ولسنا منهم؟!
هو رثاء لبعض الأرواح الميتة لبشر بيننا. في شواهد ومفاصل كثيرة في الحياة، يهربون فيها من تسجيل موقف حر طلباً للنجاة؛ ولا نجاة في ذلك البتة، بتلك الضِعَة وإهدار الكرامة، والتنكّر للشرف!
لم يعد الرثاء قصْراً على الذين نودِّعهم لغيابهم النهائي. فثمة رثاء وُجِد أصلاً للغائبين عن الحياة بيننا، قبل أن يصبحوا من رعايا الغياب النهائي؛ أو ربما هو الرثاء الذي لن يكون أخيراً، وقد سبقتْه رثاءات لا حصْر لها. رثاء أمة هي في ترتيب الضياع والغياب والتخلُّف والارتهان والانشداد لمن يصنع نهاياتها. أمة في الرتْبة ما بعد الأخيرة بين الأمم!
مُضادٌّ حيويٌّ
«الشائع في حياتنا الثقافية أن مهمَّة المثقف هي في أن يطرح حلولاً للخروج من أزمة ما، أو من الأزمة عموماً. وهذا تصوُّر أو مطْلَب خاطئ. فالمثقف لا يحلُّ الأزمة. إنه، على العكس، يخلقها».
أدونيس
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4755 - الأحد 13 سبتمبر 2015م الموافق 29 ذي القعدة 1436هـ