كتب الدكتور والأديب حسن مدن مقالاً منذ عدة أسابيع في صحيفة الخليج الشارقية عن أصدقاء النهر، وعن أولئك الذين يعيشون بحب وسلام وحميمية بالقرب من نهرهم، يمسون ويصبحون عليه ويشكل جزءاً من حياتهم، «وحيث يسير النهر على حواف بيوتهم ويصبح بوسعهم أن يمدوا أيديهم أو أرجلهم إلى النهر أو يلقوا بصناراتهم وهم في البيوت فيصطادوا الأسماك منه» وتساءل الكاتب: «أن يصادق المرء النهر منذ طفولته وينشأ حوله كيف بوسعه أن يتحرر من ذلك الحبل السري الذي يشده إليه؟».

المقال ذكرني بعلاقتنا نحن أهل الخليج بالبحر، فلقد كنا نحن في هذه الجزيرة الصغيرة التي يحيط بها البحر من كل جانب أصدقاء دائمين للبحر، بيوتنا تطل على البحر، والبحر مصدر رزق أغلب المواطنين في ذلك الوقت، أسماكاً ولؤلؤاً وسفناً وتجارةً، وكانت النخلة تلاصق البحر، كتب الشاعر البحريني علوي الهاشمي قصيدته الجميلة «ما قالته النخلة للبحر»، مستوحياً هذه المناظر الخلابة ومتأملاً في تلك العلاقة التي ربطت بينهما طوال الأزمان ، لكن البحر الذي كان عاماً ومتوفراً ومتاحاً ورخيصاً ارتحل بعيداً، «ماذا فعلتم بالجزيرة؟» هكذا تساءلت باحثة فرنسية بيئية جاءت إلى البحرين قبل سنوات لتقصي ودراسة الاختلالات التي حلت بالبيئة البحرية، التوسع العمراني والزيادة السكانية تسببا في دفن البحر واستعاد سكان المدن الإسكانية الشعبية العلاقة بالبحر مجدداً في أعوام الثمانينيات، لكنها لم تلبث سوى فترة وجيزة، إذ سرعان ما غادرهم البحر وابتعد مجدداً عن أهله وجيرانه القدامى، ثم دخلنا مرحلة الاستثمار التجاري في البحر، هنا تحول البحر إلى سلعة غالية جداً ومصدر من مصادر التربح والإثراء المفاجئ، ولم يعد ممكناً لعامة الناس الوصول إلى بحرهم الذي يعرفونه، صار بعيداً ومتعالياً ونائياً.

في ظل السنوات العشر الماضية استيقظنا على المدن الاستثمارية البحرية التي بنيت في قلب البحر في البحرين ودول الخليج الأخرى، صار للبحر أصدقاء وجيران جدد من الأغنياء والمقتدرين فقط، صار البحر خاصاً بعد أن كان للعموم، ولناس دون ناس، ولم يدر بخلد القائمين على هذه المشاريع، أنها مدن أكبر من طاقة البلد، ولا قدرة للمواطنين على تملكها، وأنها «مدن ليست لنا» كما قال باحث خليجي بل مصممة بالأساس للمستثمر الخارجي ذي القدرة المالية العالية، وهكذا جاء القانون كمسعف وتغيرت قوانين الاستثمار وقوانين الإقامة والجنسية، أصبح للمستثمر القادر على الشراء الحق في الحصول على الإقامة والجنسية إذا اشترى بيتاً على البحر، وقد بلغت ظاهرة إنشاء المدن البحرية أوجها قبل الأزمة المالية الاقتصادية في 2008 والتي فرملت هذه الاندفاعة المتسرعة وعطلت أو أوقفت بعض المشاريع منذ ذلك الوقت.

قد كانت الأزمة المالية رحمة بالبحر وبسكان البحر وبثروات البحر وشعابه المرجانية وبيوت أسماكه وموائله الطبيعية، هكذا يقول المختصون بالبيئة، إن مدن البحر الجديدة جميلة وخلابة ومصصمة تصميماً رائعاً وجاذبة للمواطن القادر وللمستثمر ولا تقارن بتلك المدن والقرى البدائية البسيطة التي جاورت البحر سابقاً، لكن العلاقة بين قاطن هذه المدن والبحر علاقة مختلفة، ربما أقل حميمية وحباً مقارنة بتلك العلاقة التاريخية التي ربطت سكان البحر الأوائل الذين تربوا ونشؤوا مع البحر وصادقوه وجاوروه قبل أن يرتحل عنهم مرغماً.