لا ذخيرة لأي مخلوق ولو كان متحصِّناً في برْج يُشْرف على العالم بمِقرابات، مدعومة بأسلحة فتَّاكة؛ ما لم يكن منتبهاً، وما لم تكن ذاكرته وانتباهه هما برجه وحصنه وذخيرته.
ذخيرة المرْء حضوره وانتباهه وصلته بالزمن... الواقع، وما يدور من حوله.
معظم أخطاء وكوارث العالم حصيلة طبيعية للغفلة. لا أخطاء أو كوارث تكون صنيعة الانتباه والحضور. غفلة وغياب في تقدير المواقف وقراءتها واستيعاب مآلاتها. معظمها نِتَاج غياب لا حضور. ليس الحضور الذي يُسجِّل ملء الشاغر من المكان؛ بل ملء الشاغر من العقل الذي يحصِّن المكان من الكارثة والدخلاء وما يُنغِّص ويُخلْخل استقراره، ويعبث برفاهيته، وينال من أحلامه وتطلعاته وأفكاره الفاعلة. ذخيرة أيٍّ منا، أن يرعى مكانه وزمنه، ويُحصِّنَ قدرته على الإتيان بالفعل الخلَّاق، والمواقف التي تُعمِّق قيمته وأثره ودوره في لعب دور فارق، وسط تفرُّج واتِّكال واعتناق لدِين المصادفة.
ليس بمنطق الحروب وصناعة الخسْف والمصادرات والقمع، والجاهزية لترتيب مذبحة تذهب هذه الكتابة، ولا تحتاج إلى تبرير ووضع خريطة ومخطط لتبيان مقاصدها. الكتابة التي تنشغل بالمقاصد لا يُعوَّل عليها، ولا تختلف في كثير أو قليل عن فخٍّ يتم ترتيبه للذين يستقبلون هذه الكتابة. بمنطق الحصانة الضرورية، وبمنطق الانتباه للخبْث الفائض في هذه الأرض وغيرها، وبمنطق الحضور الذي تشتغل عليه كيانات ودوائر لدفعه للتوحُّد واعتناق الغياب. الغياب الذي يؤكد نفيك، وتجذُّر سواك، وعجزك وحيوية المقابل لك، ووهنك، مقابل غابات من الحصون وما تحتاجه تلك الحصون من حصانة أيضاً.
والذخيرة: أن تعْلَمَ، تُدركَ، تقرأ الذين يشاركونك المكان بحب، وأولئك الذين يوفِّرون نومهم انتباهاً لمصادرة مكانك والزمن في ترتيب طبيعي ومنطقي.
وذخيرتك الحيَّة أن ترى بعينك لا بعين تُفْرض عليك، وأن تُصْغي امتلاءً بحواسك الإضافية كي تُدرك كما يجب، ولا تكون صريع الغفلة والندم.
وذخيرتك العالم الذي اطمأن لك، وتفرّعت طمأنينتك منه. عالم صغُر أم كبُر؛ يظل موئلك والمرجع الضروري لتقصّي أحوالك قراءة لأحوال الذين شغلوا عالماً في مدى روحك والقلب. وذخيرة أخرى ألاَّ تكون نهْباً للاستغفال؛ إذ ثمة من يفترض أنك طارئ على الجنس البشري، يتيح له الحق في أن يسوقك كما تساق الأشياء لا البهائم فحسب!
وتسأل أيضاً: هل الانتباه حياة؟ تتقصَّى المدى والمرجعية التي تطال النفس والوجود والحقيقة وانتباهاً آخر: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»!
وتسأل ذات غربة ووحشة وندم: ما الانتباه؟ هل الصحو في صورته الملتبسة بمباشرته المؤذية وهو يكاد يكون عدماً ولا شيء يدل عليه؟ هل هو الارتهان للصوت والصدى والفعل الذي يُفرض عليك؟ هل هو قدرتك على النجاة من اغتيال يتربَّص بك، وأفخاخ تؤثث الطرق التي اعتدت عبورها؟ هل هو حيلتك بالنجاة من كل ذلك؟ وهل هو أن تكون كما أنت؛ بشقائك ونعيمك، بسطوتك وتجانسك مع الطبيعي من نبْض ما ومن حولك؟
حصانتك وذخيرتك: الناس الذين يشبهون وجعك وحزنك... رفاهيتك وفرحك... عجزك الذي يقوى بهم، ويأسك الذي يسهر على أمل الذين ترْتجي وتتيقن بياض الأثر منهم. لن تكون حياً من دون انتباهك. لن تكون بذخيرة أصلاً بفقدان تلك الحاسة. لن تكون أنت من دونها. ثمة من سيعبث بكل ذلك. يعبث بك، وبقيمة وجودك. قيمتك في المقام الأول والمهم!
لا أحد بمنجاة من الغفْلة. لا أحد حياً من دون ذخيرة ترتفع به ولو قليلاً عن الأرض. تمنحه القدرة. حصانتك أيضاً في تحصين قلبك وعاطفتك وأوقاتك من النأي عن الذين لهم حصة في قلبك، ولك حصة في قلوبهم. لا قلب لك بذلك النأي، ولا ملامة أو بأس على قلوب نأتْ عنك بعد فُحْش نأيك. لا حصن ولا قلعة مثل قلب يشغلك بانتباه دائم، وصحوة لست مُخيَّراً في الانسجام معها أو النفور منها. وِفْق طينتك، وتطابق مع نوازعك والطمأنينة هي.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4751 - الأربعاء 09 سبتمبر 2015م الموافق 25 ذي القعدة 1436هـ