أعتقد بأن أغلب تراث البحرين العلمي لم يتم نفض الغبار عن أكثره، ولم يُتح له أن يرى النور، فمجال الاهتمام بالتراث البحريني المخطوط مجال صعب وميدان رحب، والمهتمون به قليلون وقليلون جداً، ومن هذا القليل الشيخ إسماعيل الكلداري الذي يعود له فضل مساعدة عدد كبير من المحققين والباحثين من داخل البلد وخارجها، في سبيل نشر وإخراج عدد من الكتب المخطوطة التي بذل في سبيل الحصول على مستنسخاتها جهوداً مضنية، وأنفق في ذلك وقتاً ليس بالقليل.
والشيخ إسماعيل واحدٌ من الذين يعملون بصمت وله جَلَد وصبر عجيب في هذا السبيل، ومن المخطوطات القيّمة التي يعود له الفضل في إخراجها رسالة للشيخ شرف الدين محمد مكي العاملي الجزيني من علماء القرن الميلادي الثامن عشر (الثاني عشر الهجري)، الذي زار البحرين وأقام بمنطقة البلاد القديم عامين، ودوّن عن علماء البلاد نصّاً ضمّنه الكثير من المعلومات التاريخية المنفردة، وهو يتهيأ لنشر نصّ العاملي محققاً، وأتمنى أن يكون ذلك قريباً.
ميدان المخطوطات في البحرين ميدان مُهمل إلى حد كبير، ويفتقر إلى المؤهلين تأهيلاً متخصصاً، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على طبيعة الإنتاج العلمي المرتبط بالتراث المخطوط على المستوى الكمي والنوعي، فحصة التراث البحريني من النشر العلمي قليلة، وهذا القليل لم يحظ بالتحقيق والإخراج الذي يتناسب مع أهميته عدا النزر اليسير الذي خرج بجهود مؤسسات ومراكز علمية في إيران والعراق التي بذلت قسطاً كبيراً وعناية عظيمة بالتراث العربي والإسلامي. وكان من حظ التراث البحريني أن صار إلى يَدّ تحترم العلم وتقدّر أهمية ذخائر التراث الإنساني وتعطيه التقدير اللائق وإلا لكان ضاع واندثر.
ولعل من أوائل الجهود التي أعطت للمخطوطة البحرينية عناية واهتماماً من خلال الفهرسة، أولى مراتب العناية بالتراث المخطوط، ما بذله الباحث علي أبا حسين المدير السابق لمركز الوثائق التاريخية، عندما أصدر المركز مطلع ثمانينات القرن الماضي «فهرس مخطوطات البحرين» في جزأين. ولقد بُني عمل أبا حسين في «الفهرس» على مسح شامل لما تضمنته دار المخطوطات والوثائق التابعة لإدارة الآثار والمتاحف في العام 1976، وبعض المكتبات الخاصة (31 مكتبة خاصة)، وجاء ذلك تزامناً مع تنامي دعوات معهد المخطوطات التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم للعناية بالمخطوطات في البلدان العربية.
على أن الثروة البحرينية من المخطوطات تتجاوز بكثير ما تمكّن أبا حسين من جمعه وتوثيقه، فالفهرسة مشروع مفتوح أمام بوابة الزمن، و»الاستدراك» بابٌ من أبواب العلم برع فيه علماء المسلمين وأكثروا التصنيف فيه منذ القِدَم. ويُصوّر لنا الشيخ العاملي في رسالته عن علماء البحرين واحدةً من كبرى المكتبات الخاصة في القرن الثامن عشر الميلادي (12 الهجري) وهي مكتبة الشيخ يوسف آل عصفور (ت 1773م/ 1186هـ) ويقول: «وقد احتوت خزانة كتبه على نحو 10 آلاف كتاب، ونقل لي بعض الطلبة قال ربما كان عنده في شيراز نحو 20 ألف كتاب، وقد أصيب بهذه الكتب مع ما أصاب أهل شيراز من النوازل والمصائب التي يطول ذكرها».
والعاملي يتحدث هنا عن مكتبة الشيخ يوسف في كربلاء، وهو الذي تناهبته المهاجر ولم يترفق به الزمان إلاّ أواخر عمره. وذكر أنها حوت نحو 10 آلاف كتاب، أما مكتبته التي في شيراز فيقول أنها ضمت نحو 20 ألفاً، هذا غير تلك الكتب التي كانت في حوزة العائلة إبان إقامتها المتقطعة في البحرين وضاع منها الكثير من الكتب على ما نفهمه من كلامه في «لؤلؤة البحرين». وعلى رغم ذلك فإن 30 ألف كتاب يُعدّ رقماً ضخماً بالنسبة لمكتبة خاصة حتى بمقاييس عصر الكتاب المطبوع. ولا شك في أن هذه المكتبة كانت حصيلة ميراث العائلة العلمي الذي يمتد لأكثر من 4 قرون.
ومن أشهر المكتبات الشخصية التي عرفتها البحرين في عصر الكتاب المخطوط مكتبة الشيخ سليمان الماحوزي، الفقيه الموسوعي، ويحدثنا صديقه الرحالة الإيراني الشيخ عبدالله الأفندي الأصفهاني (ت 1718م/ 1130هـ) عن جانبٍ من مقتنيات هذه المكتبة التي وقف أمامها مشدوهاً لما كانت تزخر به من نفائس الكتب. كما كانت تحوي النسخ المتعددة من الكتاب الواحد، وهذا يذكّرنا بما كانت عليه كبرى المكتبات التي عرفتها الحضارة الإسلامية في بغداد العباسية والقاهرة الفاطمية.
وقد دوّن الأفندي أثناء زيارته البحرين في القرن السابع عشر الميلادي (11هـ) شيئاً يسيراً من التراث العلمي المخطوط في البحرين في كتابه «الفوائد الطريفة»، هو فقط ما سمحت به ظروف إقامته المؤقتة وسفره الدائم أن يراه ويقف عليه، والذي يخرج منه قارئ نص الأفندي أن أغلب ما كتبه حول مخطوطات البحرين هو من مقتنيات الشيخ الماحوزي الذي كان جمّاعة مذهلاً للكتب، وهذا ما خرجتُ به من انطباع عندما قرأتُ كشكوله الكبير «أزهار الرياض»، الذي حاولت أن أحصي مصادره التي اعتمد عليها في كتابه فوجدتها تزيد عن 350 مصدراً.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4742 - الإثنين 31 أغسطس 2015م الموافق 17 ذي القعدة 1436هـ
بوركت
افتنا بارك الله فيك كتاباتك في قمة الروعة
بوركت
افتنا بارك الله فيك كتاباتك في قمة الروعة
تراث تاريخي
تراث إسلامي تاريخي يدل على تجذر الإسلام وأكابر الفقهاء في هذه الأرض..شكراً للكاتب
شكرا
وشكرا للقاريء