ظاهرة «المهمشين العرب» هي الظاهرة الأكثر تأثيراً في المشهد العربي الراهن. هذه المشكلة تتفاعل في أعماق الدول العربية سواء تلك التي تتمتع بالرخاء أو تلك الأكثر فقراً. وتشكل المشكلة هاجساً للدول غير العربية حيث يزداد «المهمشون العرب» انتشاراً وهرباً من نار بلادهم. ولم تعد مصادر التهميش تتلخص في صراع الطبقات بمعناه الاقتصادي، فهناك أنماط أخرى من التهميش أكثر خطورةً، فالفقر والغنى لا يصنعان ثورة وحركات احتجاج كتلك التي وقعت في 2011، لكن التهميش يصنع ثورات وانتفاضات كما يصنع مشهد العنف والإرهاب الذي يبرز أمامنا اليوم.
إن التاريخ لا يستجيب للنظرة الأمنية إلا في المدى المحدود والقريب، بل نجده يستجيب للنظرة الاجتماعية والسياسة الاقتصادية الشاملة التي تتفاعل مع عوامل أكثر عمقاً تقع تحت سطح المجتمع.
ويقع التهميش عندما تشعر فئات من المجتمع بأنها تعاني من التمييز بسبب الخلفية الاجتماعية والعائلية أو القبلية أو الدينية والطائفية أو الجنسية (المرأة) أو الاقتصادية والجهوية والمناطقية والعمرية. إن الشعور بـ«التمييز» بخاصة عندما يتداخل مع عوامل اجتماعية ودينية وعمرية ومناطقية، يتحوّل إلى قنابل موقوتة لا يمكن إلا أن تنفجر في وجه النظام السياسي.
التهميش يعني عملياً أن هذه الفئات لا تشارك في العمل السياسي، ولا تتقدّم كما تتقدّم الفئات الأخرى، ولا تستأثر بما يستأثر به الآخرون، كما أنها تقطن في مناطق محددة وتفرض عليها حدود في الحياة العامة. وتجد هذه الفئات أنها مستثناة من العمل في أجهزة كثيرة، وأن رتبها قلّما ترتقي إلى رتب الآخرين، وإنها أيضاً تحرم من مواقع مهمة في الدولة، كما أن مصالحها لا تراعى كما تراعى مصالح فئات أخرى.
ويرتبط التهميش في الوقت نفسه بالعنصرية المكتوبة وغير المكتوبة، والتي تُمارس في العلن كما تمارس من وراء الأقنعة من قبل سلطات وفئات متنفذة. التهميش يرتبط بالسياسة وبالجهات التي تهيمن على الدولة وتقرّر مع من تتحالف ومن تستثني وتبعد وتعتقل وتنفي. قد تتجمع أربعة عناصر سلبية في عملية التهميش، كالعائلة والمنطقة والفقر واللون أو الدين لتصنع المشكلة. لهذا تعم في السنوات الأخيرة الدراسات الاجتماعية التي تركز على التمايز بين الفئات.
وتنتج عن التهميش مشكلةٌ أعمق للنظام السياسي الذي يمارسه من دون وعي بآثاره، فكل من يرتبط بالقوى المهيمنة على النظام السياسي سيشعر بالنتيجة أن الدولة هي ملكه وله فيها أحقية تتفوق على غيره حتى لو تجاوز القانون ودمّر الإدارة وسرق المال العام وتصرّف بما هو ليس له. من جهةٍ أخرى، كل من لا يرتبط بالنظام وينتمي إلى أجنحة عائلية وقبلية وفئوية تعاني درجات من التهميش سيشعر بالغربة والإنزواء عن الدولة ومؤسساتها.
في المشهد العربي تفرز الدولة المهمّشين الذين يتحوّلون إلى غاضبين ومعارضين وناقدين في الجانب السلمي، وهي نفسها التي تفرز مع الوقت، من دون وعي ومعرفة، الإنتحاريين والمفجّرين في الجانب العنفي. وبإمكان رجل أعمال ينتمي إلى أسرة مرموقة ويملك ما لا يملكه غيره، أن يشعر بالتهميش بسبب انتمائه لطائفة أو فئة أو قبيلة وعائلة تمنع عنها المواقع الحساسة ويتم التشكيك في ولائها ووطنيتها في وسائل إعلامية توجهها الفئة المهيمنة على الدولة. في الحالة العربية يتعايش هذا الفرد مع تهديد وربما إذلال، ولا يشعر بنعمة الأمن التي يشعر بها الآخرون، كما لا تشعر بها الفئة التي ينتمي إليها إلا في حدود دنيا. ويحتاج هذا الفرد لينجح إلى ضمانات وشراكات غير عادلة من بعض أعضاء الفئة المهيمنة ليضمن حقوقه وتجارته.
ويصبح الأمر أكثر خطورةً، والتهميش أكثر إساءةً، عندما يتعرّض إلى التحدي، ويكتشف أن اعتبارات حقوق الإنسان والضمانات الدستورية والقانونية ليست متوافرة له كما هي لغيره من المنتمين لمجتمع المهيمنين. وهذا يعني أن مفهوم الأمن مختلفٌ بين الفئات والجماعات والطوائف والأقاليم.
ويؤسّس التهميش للنظام السياسي القادم. لقد جاء كل جديد من رحم التهميش عبر تاريخ الإنسان. وهذا يعني أن سياسة التهميش من قبل الفئات المسيطرة تصنع الأرضية التي تؤدي إلى نشوء دور المهمشين. لو عدنا إلى التاريخ العربي الحديث، برز العلويون من المهمّشين في الجبال كما الناصريون، والتكارتة من الريف، أما الشيعة في العراق فبرزوا من صفوف المهمّشين في زمن البعث، وسنّة العراق يثورون اليوم من جرّاء تهميش ما بعد 2003، وبرز «حزب الله» من قاعدة تهميش الشيعة في لبنان، وكذلك الحوثيون في اليمن، والجنوبيون في عدن وغيرهم. كانت تلك فئات قد همّشتها أنظمة سابقة لم تعد قائمةً اليوم.
الأخطر في قضية التهميش هو انتشار روح الانتقام، فمجيء المهمّشين على أنقاض من سبقهم يخلق الفرصة لظلم فئات ارتبطت معنوياً وسياسياً بالنظام القديم، كما حصل في إيران بعد الثورة وفي دول عربية كثيرة بعد إنقلابات. هذه الدورة التي يعاني منها النظام العربي لا حل لها إلا بالإصلاح من خلال استباق غضب المهمّشين.
المشهد العربي يتعطش لقوانين جديدة تفتح الباب والمجال للفضاء السياسي والحقوقي والتنموي والديمقراطي، حيث التداول على السلطة بوسائل سلمية. هذه اللعنة لن تزول عنّا من دون حريات وحقوق ودول قوية.
الدول العربية لم تقدّم حتى الآن نموذجاً للعدالة لا بالمفهوم الإسلامي القديم ولا هي قدمت نموذجاً حديثاً لتطوير المجتمع سياسياً واجتماعياً وثقافياً وإنسانياً وحزبياً ومؤسساتياً وفي مجال ممارسة الحريات والحقوق. فالشعب بالمفهوم العربي الرسمي قاصر كالطفل. والدولة العربية أقصت بالكامل روح المقاومة لدى الشعوب العربية والتي أتت أساساً بالاستقلال وعُرفت عنها البطولة في زمن الاحتلال الأجنبي.
يجب أن لا نقلل من سعي الدول العربية للتنمية وفق مفهوم محدّد، وسعيها إلى نشر التعليم وبناء الجديد منذ الاستقلال، لكن يجب أن لا نقلّل من الثمن الذي تم دفعه من جراء سعيها لإضعاف الروح السياسية وممارستها لأشكال من الديكتاتورية، تحوّلت إلى مرض مزمن في الحالة العربية. الفئة المهيمنة في الساحة العربية قضت على روح المنافسة وحدّدت الحريات خوفاً، وأفسدت المؤسسات عبر سياسة توزيع المناصب لفئات وعزل فئات أخرى.
مدرسة العنف السائدة في العالم العربي هي نتاج مؤلم لفشل الدولة، فـ«الدولة الإسلامية» (داعش) و»القاعدة» من قبلها أكثر من مجرد صراع حول الأزمة السورية والعراقية أو اليمنية، بل هي كيانات سياسية هدفها تسريع الأزمات في الدولة العربية ونقلها إلى أماكن جديدة. إن ضربات «داعش» خارج «حدوده» كما في الكويت والسعودية هدفها إضعاف الدولة وخلق اهتزازات في قدرتها على القيام بواجباتها وضرب إسفين بين جماعات مختلفة. هذا اتجاه لن يخبو في المدى المنظور بخاصة في ظل الموانع أمام العمل السياسي السلمي والحريات والضمانات الدستورية.
السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن لمجتمع فيه نسب عالية من المهمّشين وتنقصه الحريات والقيم الحرة والضمانات الحقوقية، أن يقف صفاً واحداً في معركة ضد العنف والإرهاب في المجتمع؟ فعلى رغم الإدانات الكبيرة للعنف، إلا أن قطاعاً كبيراً من المجتمع لا يعتبر المعركة معركته حتى لو لم يعلن ذلك، وهنا مكمن الخطورة، وكأن الصراع بين مدرسة العنف والإرهاب بفاشيتها وبين الدولة ونخبتها الحاكمة محصور بين طرفين، بينما المجتمع يقف في الوسط منقسماً على نفسه ومستقبله.
المهمّشون والمحبطون من العرب خرجوا من الصراع، والكثير منهم انضم إلى صف التغيير السلمي وبعضهم إلى صف العنف والتدمير، بينما كتل كبيرة تنتظر فرصتها عندما تتآكل الدولة كما حصل في دول عربية عدة. في المجتمعات العربية تبدو فئات مهمة كارهةً لوضعها ودولتها ومتطرفيها ولكل شيء. هذا الوضع هو الأخطر، وهو يمهّد لما قد يأتي إن لم تتدارك الدولة العربية نفسها عبر اتباع سياسة مختلفة.
إن الإنذار الأوّلي في 2011 مجرد إشارةٍ إلى أن طريقة عربية في السياسة والحياة وأسلوب العمل والإدارة بدأت تموت، وأن طريقةً أخرى لم تبرز بعد، وأننا نمر في مرحلة هي بين الاثنين. وقد يكون عدم التشابه بين مكان وآخر في البلدان العربية مرتبطاً بالتوقيت والظروف والحالة المالية وعدد السكان، لكن يجب ألا ننسى أن التغيير يعصف بالعرب جميعاً وإن بدرجات مختلفة وبطرق متنوعة. وما يقع اليوم من عنف في الحالة العربية يؤكد مدى محدودية ما عرف باسم الثورة المضادة في استعادة القديم. فالثورة المضادة أعطت الوضع العربي الرسمي بعض الوقت لترتيب أوراقه، لكنها عقّدت مشكلاته وعمقت عنفه. إن البحث عن طريق جديد مازال جوهر المرحلة التي يمر بها العالم العربي، فالحاجة إلى العدل أولاً وللحريات والحقوق والكرامة والتنمية. والدولة المحايدة مازالت في مقدم الحلم العربي الصاعد.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4724 - الخميس 13 أغسطس 2015م الموافق 28 شوال 1436هـ
مسمار في لوح
أمتنع عن الكلام وذلك لشرحه الدقيق عن واقع الدول العربية من غير دكر أسماء
في الصميم
كانك تعيش معنا. توضيف دقيق وصادق