تناول الجزء الأول من المقال، تمدُّد الطاعون المتمثِّل في الحركات الإسلاموية التكفيرية («داعش» وملحقاتها، أحد تمظهرات وتجليات ذلك التأسلم التكفيري)، التي تساندها دول وثروات ضخمة لا حدود لها، تمدُّده في كل من سورية والعراق ولبنان، وإثبات تلك الدول أنها عصيَّة على الانحناء والتسليم لذلك الطاعون الذي لن يترك وراءه عُمراناً ولا بشراً، بقدر ما يهدف إلى ترك الأرض خراباً، وقاعاً صفصفاً، وأثراً بعد عين.
وليس الهدف من وراء كل ذلك، إدخال الناس في دين الله أفواجاً، بقدر ما يهدف إلى تحويلهم لمجموعة من البهائم التي لا تملك إرادتها ولا الخيار في الداخل، وإغلاق الأبواب أمام «دخول الناس في دين الله أفواجاً» في الخارج.
إن معظم الذين لهم دراية باستراتيجية الحروب والمواجهات والصراعات، يعرفون أن البلدان التي تتعرض لطاعون الإرهاب وجراثيمه، ستكون بوابات تتحطَّم عندها أحلام دول وكيانات وتنظيمات، اليوم أو غداً، من دون أن ننسى الذين أمدُّوا تلك المخلوقات الدنيئة.
وفي الكلام على مصر بكل التحوُّلات التي طرأت عليها، منذ خلع الذي استباح ثرواتها وكرامتها وسيادتها وخيارها وقرارها، حسني مبارك، وصولاً إلى محمد مرسي الذي ترك مكنة التكفير والإرهاب تحضِّر الأرضية لما سيحدث في مصر لاحقاً، على رغم الاختلاف على الطريقة التي تم بها عزله وقد جاء بصناديق الاقتراع، وتلك مسألة لن ننافق ونتوسَّل بها سلامة من شرّ أي كائن كان، ابتليت بجرثومة الإرهاب وطاعونه، والذين يدعمونه من جهة، ولا يحتاج أي منا إلى عظيم جهد وعبقرية كي يكشف نفاقاً ومراعاة لمصالح في وقوف طابور خامس ومؤازرته الظاهرة للدولة المصرية. فمصر هي الأخرى ستظل عصيَّة على استيعاب تلك الجراثيم واحتضان ذلك الطاعون، ولا مكان له تحت شمسها التي علَّمت الأرض معنى الحضارة والتفرُّد والقيمة الكبرى للإنسان المصري الذي صنع أكثر من معجزة منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا.
أما تونس فقد انتصرت باعتدال الذين قُدِّر لهم أن يمسكوا بمفاصل العملية السياسية وبصناديق الاقتراع، لكن حكمة نادرة وحقيقية تحرص بصدق وأمانة ووعي على البلد، دفعت إلى تقديم تنازلات، لن تتكرَّر في تجربة الديمقراطية العربية الطارئة، وتظل مركزاً من مراكز الأمل في التجربة. تلك التنازلات هي التي تصنع الحياة، وإن توارى الذين كانوا في عمق الحدث وقلبه عن المشهد الراهن هناك.
وفي ليبيا يعرف كثيرون أن الذين قادوا الحراك بداية الأمر، ليبيون مدنيون اختفوا من المشهد حتى قبل سقوط نظام معمَّر القذافي. المدنيون أنفسهم لم تنقصهم الآلة التي يُمكن أن توفر لهم الانقضاض على منجزات ونتائج الحراك مستقبلاً؛ لكن الميليشيات هي من تولَّت الهيمنة على المشهد. من قطفوا ثمار الحراك هناك هم المليشيات، وتجَّار الحروب، ومن يعبث بالأرض، ويهيمن على المشهد هو الإرهاب المحلي الذي تم تطعيمه بأوباش الأرض، بتمدُّد طاعون «داعش» هناك. وما كان لمثل ذلك الإرهاب أن يستوي ويقوى لو لم يتم مدُّه من قبل آلة التكفير العابرة للحدود، والمالكة لموارد تفيض بها على الذين لا مشكلة لديهم في تخريب أوطانهم!
ذلك لا يعني أن بقية البلدان ستظل نائمةً على الضيْم واستلاب إرادتها. لا يعني أن أساليب القمع حققت نتائجها، وعلى المدى البعيد؛ فالذين يُصرُّون على حقوقهم التي لا اختلاف عليها في دساتير وقيم العالم الحر، لن يخسروا شيئاً في سبيل أن ينالوا تلك الحقوق، وهم - بالمناسبة - المصدُّ والطارد الحقيقي لجراثيم الإرهاب والإرهابيين، ولا أحد سواهم، ودعكم من خراف الاستراتيجيا بكل المهازل التي يطلعون بها على الناس!
لا غفر الله للذين نشروا طاعون العصر من التكفيريين، والمناصرين لهم، بتثبيت شرعية ذلك المنهج الظلامي. وعلينا ألا ننسى أنه لم تبدأ طائفة من المسلمين (يتم استهدافها، والطعن في إسلامها وحتى حقها في الوجود يومياً، والتأليب والتحريض عليها، علاوة على دعوات لإلقائها في البحر)، تفجيرات 11 سبتمبر 2001. لم تبدأ الطائفة التي يتم تكفيرها صباح مساء من قبل بعض الخطباء المتأسلمين اختراع المفخخات لقتل المصلين الأبرياء جماعياً دون ذنب. لم تنتخب مواقعها؛ حيث الأطفال في مدارسهم، والطلبة في جامعاتهم، والمصلون في محاريبهم كي يكونوا أهدافاً تبرر لها المناهج التكفيرية استباحة الحياة، والعبث بالدم، وانتهاك الحرمات.
من صنع تلك الجراثيم وذلك الطاعون، فكر مازال متأصِّلاً، ويتم اعتماده في المناهج، على رغم كل الخراب والدمار الذي صنعه في الحواضر والبوادي العربية؛ إلا أن الذين يعززونه لم يطرف لهم جفن؛ والعواصم والبلدان التي تناولها المقال في جزئيه، وغيرها من البلدان، ستكون هي الحصن الحصين الذي سيدفع ويرد تلك المخلوقات الدميمة، وهي محفوفة بالخزي والعار والهلاك أيضاً؛ إذا ما تم الاحتكام إلى القانون، وتعزيز مبدأ العدالة والمواطنة بين جميع فئات المواطنين لا «الرعايا» في تلك البلدان التي وصلها الإرهاب؛ أو تلك التي هي بمنأى عنه، ولا أحد بمنأى عنه في ما نشهد ونرى.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4720 - الأحد 09 أغسطس 2015م الموافق 24 شوال 1436هـ
من المحرق
أين رأينا يا من تدعون الحيادية والرأي الآخر .
التأسلم التكفيري
هو كل فكر يجهر بتكفير غيره من المسلمين؛ و يستحل أموالهم و دماءهم؛ من أي مذهب كان!
موضوع رائع
تسلم جعفر بالتوفيق
مقال رائع
توصيف بليغ للمشهد العربي .. ابتلينا بالإرهاب ونحن نشاهد بكل تحسف الدول الغربية تعانق القمر والمشتري وبلوتو.
صدرو لنا ويلات الحروب الي عانو منها حتى بداية القرن الماضي وتركونا نتعثر بحفر حفرها بعضنا ليسقط بعضنا.