العدد 4718 - الجمعة 07 أغسطس 2015م الموافق 22 شوال 1436هـ

الإمبراطور التافه

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يذكر إيفان كراستيف، وهو رئيس مركز الإستراتيجيات الليبرالية في صوفيا، حادثة حصلت في روسيا قبل 167 عاماً يقول: «بعد أن سَمع القيصر نيقولا الأول (وهو إمبراطور روسيا الخامس عشر) بأخبار اندلاع ثورة 1848 في باريس (الثورة الفرنسية) اندفع إلى القصر، وأوقفَ حفلاً راقصاً ثم أصدر أمرا «ثورة مضادة»؛ طَلَبَ من القوم ركوب الخيل والتوجه إلى باريس». انتهى.

كان نيقولا الأول حاكماً متجبراً منذ أن جاء إلى الحكم في العام 1825م. فقد أسَّس للملكيّة المطلقة بشكل لم يسبق له مثيل في روسيا. وقاد أصحاب الفكر المتنوِّر في بلاده والمناطق التي يهيمن عليها في الغرب (وبالتحديد في بولندا) إلى السجون، وقَمَعَ السياسيين بشدة حيث كان حاقداً على أي دعوات مدنية ومن النخب المثقفة وتيار الاعتدال تحدُّ من سلطته وحكمه.

بعد أن جاء الحكم بخمسة أعوام اندلعت ثورتان في المناطق الواطئة وأوروبا الغربية: الأولى هي الثورة البلجيكية التي قامت بها مناطق جنوب هولندا ضد الملك فيلم الأول، الذي منح نفسه صلاحيات واسعة بعد سنوات من انتصاره في معركة واترلو الشهيرة، والثانية في فرنسا ضد الملك شارل العاشر الذي أراد تحويل فرنسا إلى دولة ذات مَـلَكِيَّة مُطلَقة يكون هو سيّدها.

ولأن نيقولا الأول شخص لا يرغب في أن يرى التغيير حتى في جواره، فضلاً أن يراه في بلاده، فقد وضع خطة عسكرية سرية يستخدم فيها رعايا بولنديين في جيشه ويوجّههم صوب فرنسا وبلجيكا لقمع الثورتين معاً. وعندما وصل الخبر إلى النخب العسكرية في المناطق البولندية، قام ضباط في الأكاديمية العسكرية بالجيش الروسي بقيادة بيوتر فيسوتسكي بالوقوف ضد الخطة، فتعاطف معه بولنديون كثر، ثم امتد ذلك التعاطف إلى مناطق أخرى في المحيط سواء في بروسيا (ويُقصد بها مناطق ألمانيا وسكانها من ذوي الأصول البلطيقية) أو ليتوانيا أو أوكرانيا.

أرسل نيقولا الأول جيشاً جراراً بقيادة إيفان باسكيفيتش وقضى على المعارضة الناشئة، فحصلت هجرة بولندية شعبية كبيرة باتجاه الغرب وبالتحديد نحو فرنسا. لكن ما لم يستطع أن يحققه الإمبراطور هو الحيلولة دون نجاح الثورة البلجيكية وانتصار مقاطعات الجنوب الهولندي وظهور المملكة البلجيكية؛ وهو ما حدا بفيلم الأول لأن يتنازل عن الحكم لابنه.

كذلك الحال في تجربته مع أحداث فرنسا، حيث لم يستطع أن يُخمد ثورة يوليو الفرنسية وحماية الملك شارل العاشر الذي تنازل عن العرش في بلده وهرب منهزماً صوب إنجلترا ليموت بعدها بخمسة أعوام، تاركاً خلفه إكليروس منهارا وطبقة من النبلاء لا يحميها شيء، وهو ما شكّل نكسة لنيقولا الأول الذي يعتمد في حكمه المطلق على تعاطياته مع الرجعية في أوروبا.

وما هي إلاَّ بضع سنوات حتى اندلعت الثورة الفرنسية الكبرى التي غيّرت وجه أوروبا والعالم. ثارت ثائرة الإمبراطور المتجبِّر لكنه بدا عاجزاً عن فعل أيّ شيء. حاك المؤامرات وجنَّد المرتزقة ضدها لكنه فشل في ذلك. أراد تعويض هذه الخسارة بالهروب إلى الأمام باتجاه شرق أوروبا وجنوبها فاستعدى الأوروبيين والعثمانيين فهُزِمَ شرّ هزيمة في يفباتوريا إلى أن مات كمداً بعدها بسنتين.

ليس ذلك فحسب، بل إن مَنْ خلفه في الحكم وهو ألكسندر الثاني نيكولايفيتش رومانوف قيصر وإمبراطور روسيا السادس عشر غايَره في المنهج السياسي الذي كان الأب يسير عليه. فالحاكم الجديد حرَّر العبيد، وأعفى عن الثوار الديسمبريين، وأزال الرقابة عن التعليم ومنح البولنديين حكماً إدارياً، ووضع نظاماً للمحلّفين في المحاكم وألغى عن الفلاحين السُّخرة. ولو أدرك نيقولا الأول ما فعله الحاكم الجديد المتأثر بالأفكار الليبرالية لزاد همّه وهو المهووس بالحكم المطلق. إذْ إن التحرُّر والتوق إلى الإصلاح (ولو بشكل محدود) قد وصل إلى بيته دون أن يشعر بذلك.

نسرد هذا التاريخ كي نُدرك الحقيقة؛ إن التاريخ يُنبّهنا إلى أن تطور الحياة السياسية والاجتماعية لا يمكنه أن يتوقف. نعم، يمكن أن يُراوح مكانه لسنوات، لكنه لا يتقهقر ليستقر على الماضي. لذلك، عندما وصلت النازية إلى ألمانيا على يد هتلر، والفاشية إلى إيطاليا على يد موسوليني، والدكتاتورية إلى إسبانيا على يد فرانكو، ولم يعد من بين 35 دولة لديها حكم دستوري منتخب سوى 17 دولة في العام 1938م و12 دولة مع حلول العام 1944م، إلاّ أن الأمر لم يستقر على ما كان عليه، بل دفعت الشعوب الحرة هناك الكثير كي تستعيد كرامتها وحريتها.

في لحظة ما قد تنخدع قطاعات من الشعوب بشعارات أنظمتها التي تدغدغ وطنيتها كما فعل النازيون مع الشعب الألماني فيما خص معاهد فيرساي، لكنهم سرعان ما تأخذهم الفطرة (فطرة التنوير لديهم) إلى أن الأصل ليس في الشعار بل في الشعور.

هذا هو التاريخ الذي كان في حقيقته أحداثاً على الأرض كما نفعلها نحن اليوم. إنها دروس للجميع يجب أن لا تُهمَل. وعلى كل مَنْ لديه نصحٌ صادق أن يقدمه لمن هم محتاجون إليه في ذلك.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4718 - الجمعة 07 أغسطس 2015م الموافق 22 شوال 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً