سرد الذات واحدٌ من الفنون الأدبية التي انتعشت في العقود الأخيرة في العالم العربي، ومنذ «أيام» طه حسين، مروراً بـ «حياتي» لأحمد أمين، إلى عدد من الأعمال والمذكرات السيرية التي وضعها عباس محمود العقاد وزكي نجيب محمود ومحمد حسين هيكل وأنيس منصور والكثير الكثير مما تركه كبار الأدباء والمفكرين العرب... تشكّل لدينا من هذا الأدب تراث أدبي غني عُدّ ثمرة من ثمار التلاقح الفكري الجميل مع النهضة الأدبية الأوروبية.
السيرة الذاتية هي سيرة أدبية يسجّلها الإنسان بنفسه عن حياته. لكن عبارة «سيرة ذاتية» لم تتم صياغتها حتى ختام القرن الثامن عشر الميلادي. وقبل ذلك العهد، كانت كلمة «مذكرات» كثيراً ما تستخدم لأعمال تسمى الآن سيراً ذاتية، والتمييز بين الشكلين كثيراً ما يتحوّل إلى فرق في الدرجة لا في النوع. ويتوقف هذا على حجم مساحة الاعتراف، أو قل الكشف عن الذات الذي تتضمنه المذكرات، أما السيرة الذاتية فيعطي فيها المؤلف مساحة أكبر للحديث عن ذاته لا عن الأحداث الخارجية.
كثيرون كتبوا مذكراتهم أو سيرتهم الذاتية، وقليلون نجحوا في هذه المهمة، فالمهمة عسيرة وشروطها فنيّاً ونفسياً ليست في متناول كل صاحب موهبة في الكتابة، ومن القلة العربية الناجحة الكاتب السعودي محمد الأحمري الذي أخرج لنا مذكرات من نوع مختلف، فيها الكثير من التجرد والأصالة والصدق. مذكرات تتخذ من الكتب والقراءة والسعي الإنساني الحثيث في سبيل بلوغ النضج والكمال العقلي موضوعاً لمذكراته البديعة التي جاءت على شكل حِكَم بليغة ووصايا لقرّاء المستقبل. كما تضمنت الكثير من الطرائف والحكايات المقتبسة والمواقف المنتزعة من حياة الشرق والغرب، عالجها الأحمري في كتابه الشيق بأسلوب أدبي أخّاذ ولغة شاعرية مدهشة، وسماحة وانفتاح أفق، وأرجو أن لا أقع في فخ التسويق لكتاب وكاتب اكتشفته تواً، وقد شدّني الموضوع حقاً، وعناوين الكتب هي كعيون الحسناوات يرمين ألبابَ الرجالِ بأسهمٍ
قد راشهن الكحلُ والتهذيبُ.
كان العنوان: «مذكرات قاريء»، وما أشهى الكلام عن الكتب وما أعذب الحديث عن القراءة! لم أنتهِ بعدُ من الكتاب، لكن البداية مدهشة، وقد قرأت نصفه ووجدتُ لغته رشيقة، وللمؤلف إلمام واسع وتمكن عجيب من ناصية اللغة وتلقائية تجعل من النص قريب المأخذ سهل التناول. هذا كتاب أجمل ما فيه طرافة موضوعه، ولا أقول جِدّته، لأن كثيرين قبل الأحمري طرقوه، ولم يبلغوا هذا المبلغ من التمكن والنجاح.
ومن الطرائف التي ذكرها المؤلف حديثه عن سرّاق الكتب من القرّاء المهووسين بالمعرفة، وينقل ما رواه طه حسين من أن عالماً جزائرياً جاء إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر، وكانت له مكتبة هائلة جمعها من رحلاته في شتّى البلاد من استانبول إلى المدينة. وكان هذا الشيخ جالساً في دار الكتب المصرية يقرأ مخطوطاً ثميناً، وأعجبه الكتاب جداً، فإذا به يستدعي وكيل دار الكتب ويقول له: «اجلس بجانبي حتى انتهي من قراءة هذا الكتاب؛ لأنني أخشى أن أسرقه»!
وتحدّث أحد المعجبين بجبرا إبراهيم إليه، وأثنى على كتبه، وأخبره أنه قد حصل على كتبه سرقة من المكتبة العامة في بلدته إلاّ أحدها؛ لأنه كان كبيراً لا يستطيع إخفاءه تحت ملابسه، فوعده بأن يرسل له هذا الكتاب الذي لم يستطع سرقته! وزار مثقف انجليزي صديقاً له وكاتباً مشهوراً فطلب منه أحد الكتب عاريةً، فاعتذر له عن تحقيق رغبته، فقال: لم لا تعيرني؟ فقال: لأن هذه المكتبة التي ترى كلها عارية!
تحدّث الأحمري، وجعل حشداً كبيراً من المفكرين والأدباء والفلاسفة يتحدثون معه في رحلة مشوقة في رحاب المعرفة وأجواء المكتبات وردهات الجامعات الأوروبية العريقة، وبين أعمدة الجوامع العتيقة في الشام وبغداد والقاهرة. فتجد ابن تيمية إلى برتراند رسل وابن حزم الاندلسي إلى جانب محمد باقر الصدر، ونيتشه وهيجل إلى جانب ابن عربي وأبي عمرو الجاحظ، وأبا الدرداء إلى جوار غاندي وعبدالرحمن بدوي ومرتضى مطهري وتودروف يتضاحكون ويتسامرون مع ابن الجوزي وتولستوي واسبينوزا.
لقد آلف الأحمري بين الفرقاء والأمزجة والاختصاصات، والحقول والعواصم والقرون... في مائدةٍ وديّةٍ على شرف الإنسان. وكم كان ذلك جميلاً ومفيداً وممتعاً.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4707 - الإثنين 27 يوليو 2015م الموافق 11 شوال 1436هـ
كاتب الماني
ترجم سرده الى عدة لغات اسم كتابه او قصته المتعلم الجاهل الذي اخذ بشراء كل الكتب في مدينته واقتناءها في مكتبته ولوحده حتى اصبح المدينه خالي من اي كتاب حتى جاء الفتى ليتحداه ويخترع اول اله طباه في المانيا وتوزيع الكتب والصحف للناس حتى ينهار الجاهل ويقول لا يجب على اي احد امتلاك اي كتاب في بيته الا انا !
نعم
نعم.. اطلعت عليها.. ومغنية من اوائل العلماء المنفتحين الذين طرقوا هذا الباب
تجارب محمد جواد مغنية بقلمه
هل اطلعت على كتاب " تجارب محمد جواد مغنية بقلمه"؟؟؟