حدثان بارزان خلال القرن الماضي ينبغي الاستفادة من نتائجهما بعد اعتقال الرئيس العراقي صدام حسين. محاكمة قادة نظام برلين الشرقية بعد أن أدت ثورة شعبية مسالمة إلى انهيار جمهورية ألمانيا الديمقراطية وإعدام الرئيس الروماني تشاوشيسكو وزوجته بعد سقوطه. الحدثان لهما صلة بالحدث العراقي في العام 2003. الحدث الذي هز العالم لأن القانون الدولي تعرض للمرة الأولى لمساس خطير دفع الفاتيكان والأمين العام للأمم المتحدة إلى توجيه انتقادات قوية للولايات المتحدة الأميركية.
الألمان الشرقيون ضاقوا ذرعا بقيادة هونيكر وزمرته وتمردوا عليهم من دون أن يجري إطلاق رصاصة واحدة وأدت الثورة السلمية في نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1989 إلى استعادة ألمانيا وحدتها بعد أربعين عاما من التقسيم. ولم ترسل محكمة واحدة أحد رموز النظام السابق إلى حبل المشنقة فالإعدام بأي حال ملغى من قانون العقوبات الذي طبق على ألمانيا الشرقية بعد اندماجها مع شقيقتها الغربية. لكن رموز النظام واجهوا المحاكمة على جرائمهم بحق الشعب. النظام السابق في ألمانيا الشرقية لا يختلف عن النظام العراقي السابق إلا من جهة فردية الزعيم. صحيح أن صور هونيكر الذي توفي لاحقا في منفاه بتشيلي كانت في كل مكان لكن صدام حسين كان منتشرا بصورة أكبر بكثير في صفوف العراقيين. فقد ألبسه الرسامون الذين كانوا يعتاشون من رسم الرئيس، لباس الخريج الجامعي والجندي والقاضي والفلاح والفارس والمهندس والطبيب والفنان والمعلم والصياد. كان صدام من دون شك فريدا في طرق التعبير عن تمسكه بالسلطة.
الرومان ضاقوا ذرعا بالفقر وبالظلم وبسلطة تشاوشيسكو. وكانوا يعرفون عبر محطة إذاعة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) ماذا يأكل الرئيس وزوجته الواسعة النفوذ، وأنه يطعم كلاب الصيد اللحم الذي يشتهونه وكانت ثورتهم ثورة جياع ضد حاكم متسلط أناني. وكان عقاب تشاوشيسكو، الإعدام مع زوجته بعد عملية استجواب عاجلة كي لا يفضح رموز النظام الذين سعوا إلى حماية أنفسهم ضمن طاقم الحكم الجديد. تم الخلاص من الدكتاتور الروماني ومازال شعبه جائعا حتى اليوم ما يعكس أن الدرس الروماني فاشل.
بعد سقوط بغداد صدر صوت منخفض في برلين اقترح أن تسهم ألمانيا في تقديم المساعدة اللازمة للعراقيين كي يتغلبوا على آثار الماضي. هذه الآثار المزروعة في نفوس العراقيين منذ عشرات السنين، الخوف من الخوف، الحذر من الحذر، كان العراق دولة بوليسية بكل ما تملكه الكلمة من معنى. أما اليوم فالعراق دولة فوضى أيضا بكل ما تملكه الكلمة من معنى. لماذا يحتاج العراق إلى مساعدة ألمانية وهل يمد يده إلى دولة عارضت الحرب وبحسب اتهامات أعضاء بمجلس الحكم المؤقت، عارضت إزاحة صدام عن السلطة؟ التجربة الألمانية في التغلب على الماضي تفرض نفسها في الحال العراقية أيضا لأنها تحول دون قيام محاكمات انتقامية. على رغم كل التأكيدات الصادرة عن رئيس المجلس الوطني العراقي السابق أحمد جلبي وغيره بأنه ستجرى محاكمات عادلة لرموز نظام البعث السابق فإنه من الصعب أخذ كلامهم على محمل الجد. الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بوسعهما الحيلولة دون قيام محاكمات انتقامية لكن هل بوسع القضاة العراقيين التزام الحياد؟ دولة الفوضى مازالت بحاجة إلى دستور جديد وحكومة جديدة منتخبة من قبل شعب لم يسبق له أن مارس هذا الحق بحرية مطلقة ونشر الديمقراطية لا يتم لمجرد الضغط على زر. لقد كانت محاكمة رموز نظام ألمانيا الشرقية فرصة لتمعن بالأخطاء التي نشأت ضمن هذا النظام الذي كتب عليه أن يكون منذ ولادته مواليا للاتحاد السوفياتي السابق. حصل كل مسئول متهم على نصيبه من العقاب، أما الشعب فقد توجه نحو المستقبل لأن الماضي لا يفيد. ليس معنى هذا أن الماضي تم طيه في درج النسيان، بل على العكس، الماضي هو أساس بناء المستقبل. لأن الشعب حرم من الحرية والديمقراطية فإنه من حقه أن يمارس اليوم الحرية والديمقراطية. ولأنه كتب على الشعب أن يعيش تحت حكم متسلط فإن من حقه اليوم انتخاب حكامه وإقالتهم. هذا ما ينتظره العالم من العراقيين بعد كل ما واجهوه من هزات وكبوات ومآسٍ، أن يتطلعوا نحو المستقبل، وألا يعطوا لمشيعي الفتن فرصة لاستغلال المرحلة الحالية فالعالم العربي الذي افتقد العراق في السنوات الاثنتي عشرة السابقة بحاجة إلى العراق الجديد الذي يجب أن يستعيد مكانه داخل الصف العربي ويمارس مهماته من أجل الدفاع عن القضايا العربية ومناصرتها.
في المحن تكمن فرص الحل. منذ ثمانية اشهر تعود العراقيون وجيران العراق العيش من دون صدام ولن يغير اعتقاله الكثير إلا إذا واصل الأميركيون ارتكاب الأخطاء الفادحة. العراق بحاجة أولا إلى الأمن والاستقرار إذ الاحتلال لم يوفرهما ولا يستطيع أن يوفرهما لأنه في أرجاء العراق أسلحة كثيرة وكثير من المقاتلين الذين يقاومون جنود الاحتلال لمجرد أنهم يحتلون بلادهم كما أن الولايات المتحدة نفسها تسببت في تحويل العراق إلى ساحة تجري عليها تصفية حساب بين قوات التحالف ومنظمة «القاعدة». كما هناك مقاومة مستقلة عن صدام حسين. على رغم هذه الصورة القاتمة هناك فرصة بأن ينطلق العراق نحو مستقبل زاهر إذا تدخلت الأمم المتحدة في هذه المرحلة وسعت إلى إجراء انتخابات حرة تؤدي إلى قيام حكومة عراقية مستقلة تعمل من أجل الوفاق الوطني وأن يكون همها إعادة تعمير العراق والنهضة به رأفة بشعبه الذي عاني ومازال يعاني. وأن يحصل الذين تسببوا في هذه المعاناة على العقاب الذي تقره محاكم نزيهة ليس غرضها الانتقام والتشهير ونشر الأحقاد لأن نتائج هذه الممارسات ستكون خطيرة جدا على مستقبل ووحدة العراق. أما الولايات المتحدة، التي خرقت القانون الدولي بالطريقة التي غزت بها العراق، فأمامها فرصة ثانية للتعويض على فعلتها، أن تسلم السلطة بأسرع وقت للعراقيين ليسيروا أمورهم ويقرروا مصيرهم بأنفسهم، وستساعد هذه الخطوة في وقف الانتقادات ضد بوش، أما إذا واصلت إدارة بوش العمل بما يقرره الصقور في واشنطن، فسيبقى العراق متنقلا من محنة إلى أخرى ومن يدري فقد يقول العراقيون ذات يوم: رزق الله على أيامك يا صدام
العدد 468 - الأربعاء 17 ديسمبر 2003م الموافق 22 شوال 1424هـ