العدد 4679 - الإثنين 29 يونيو 2015م الموافق 12 رمضان 1436هـ

اللعب بالبقرة المذبوحة

عصمت الموسوي

كاتبة بحرينية

جاء مصطلح الفتنة في القرآن الكريم متضمناً معانٍ ودلالات شتى تبعاً لتاريخ نزول الآيات وأسبابها، وقصد من ورائها الابتلاء والامتحان أو الانشغال بأمر ما، أو قد تأتي للتعبير عن الشرك بالله وغيرها من معانٍ عديدة. وما سمي بالفتنة الكبرى في الإسلام جاءت مع عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ثم الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، ولأسباب سياسية، وامتدت إلى ما بعد عهد الخلفاء. ولأنها مسّت عدداً كبيراً من الشخصيات الإسلامية المتصارعة فقد جرى التوافق أو العرف في العالم الإسلامي على عدم الإشارة إليها من قريب أو بعيد، منعاً لتخطئة أو تجريم هذا الطرف أو ذاك، وهكذا نامت الأمة على تاريخها وماضيها دون أن تجرؤ على مناقشته أو تقييمه أو أخذ العبر منه خشية اندلاع «الفتنة».

ومنذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا، جرى ويجري استخدام مصطلح «الفتنة» في كثيرٍ من الصراعات السياسية. والواقع أن دخول الإسلام السياسي في معترك الحياة السياسية ورفع شعارات الإسلام والمذهبية، وإسقاط الماضي على الحاضر، قد منح السلطات مبرّراً لتكريس الاختلافات السياسية بين الشعوب وحكّامها، بوصفها فتناً دينية ومذهبية.

إن تعبير فتنة لا نجد له مماثلاً إلا في أرضنا العربية المنكوبة بتاريخها السياسي ودينها المختطف، وإرثها الديني الجدلي المثقل بالدروس غير المستفاد منها إلا لصالح بقاء الحال على ما هو عليه، وعدم التفكير في تغييره تحسباً لما هو أسوأ منه. ومعلومٌ أن تعبير «الفتن» يحيل دائماً إلى الدين وإلى الماضي غير المعالَج، وغير المسموح بمساءلته أو مناقشته كي لا تمس الشخصيات التاريخية «المقدّسة». والأفضل أن يظل نائماً هاجعاً ومسكوتاً عنه مقابل حصول الناس على الأمن والاستقرار. بهذه الوسيلة تم وأد كل محاولات التغيير السياسي والاجتماعي، ووجد الاستبداد ملاذات آمنةً يعبر منها للإفلات من الاستحقاق السياسي ودولة العدالة والقانون والمساواة.

إن ما يُسمّى في وقتنا الراهن بالفتن، وأهل الفتن، وتنظيمات الفتن كـ «داعش» وغيرها، ليست سوى خطط واستراتيجيات ومكائد سياسية ذات أبعاد داخلية وخارجية لمنع التغيير وتأجيله، وصنع واقع آخر غير حقيقي عبر استغلال الخلافات العنصرية والفئوية والمذهبية والدينية الموجودة بين المكوّنات المتنوعة لتفتيت الشعوب وتجزئتها وإنهاكها وإفساد تحالفاتها. وقد تجلى ذلك في العراق وقبلها في لبنان ومصر وليبيا واليمن، مع انطلاق الربيع العربي، كما تجلى في تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية لإخماد الاحتجاجات الشعبية التي لاحت بوادرها في الأفق بعد ثورة الياسمين في تونس العام 2011، واستغلال الحدث لتفجير صراع ديني إسلامي مسيحي في مصر، والأهم من كل ذلك صد رياح التغيير السياسي.

إن إدخال دور العبادة في الصراع السياسي أو استخدامها في التفجيرات، ترمي إلى تحوير الصراع السياسي برمته، وتأجيج العاطفة الدينية لدى الشعوب، فيعيشون في هذا المناخ «الفتنوي»، وينشغلون ببعضهم بعضاً، ويردّدون الآيات والأحاديث التي تتكلم عن الفتن، وكأن لا خيار ثالث أمام الناس، فإما الاستبداد أو الفتنة. أين في غير أمة الإسلام تعود في كل مفصل من حياتها الراهنة إلى القياس على ما جرى قبل 14 قرناً؟

وقد استخدم مصطلح «الفتنة» في البحرين من قبل المستعمر الانجليزي أول مرة مع انتفاضة الغوّاصين في عشرينيات القرن الماضي، مع أنها كانت ثورة عمالية خالصة، ولا أثر للدين فيها. وطوال فترات الصراع السياسي ومنعطفاته دأب المستعمر على افتعال حوادث ذات أبعاد طائفية لفصل مكوّنات الشعب عن بعضها وتعزيز فئوية الطالب وإقناع كل طائفة بالانسحاب من تحالفهم مع الطائفة الأخرى في ظل سيادة وعي ديني مذهبي يسهل قياده واستثارته وتأجيجه، فيتفرد المستشار باتباع أسلوب المعالجات الطائفية المعتاد، ويحول دون توحد المطالب الشعبية، فيتم تحقيق جزء من مطالب هذه الفئة على حساب تلك، ويقنع الجماهير بأنه يفعل ذلك من أجل مصلحتهم العامة ولأجل إعادة «الفتنة» إلى مرقدها. وقد عُرف عن الانجليز أيام استعمار الهند، أنهم يسارعون إلى ذبح بقرة ويلقونها في الشارع لإشعال غضب الهندوس وتأليبهم على المسلمين، فيعلق أفراد الشعب في حروب انتقامية دامية وينجو المستعمر من المساءلة.

في أية أزمة سياسية مستجدة أو عارضة أو قديمة، فإنه يجب تسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة أولاً، والذهاب إلى جذر المسألة وعدم الانجرار بالمظهر السطحي الملتبس أو المخادع، وتوعية الجماهير بالأفخاخ ذات اللبوس الديني أو المذهبي المنصوبة لهم، واستخدام خطاب إعلامي سياسي مدروس وموضوعي وعقلاني، بعيداً عن الدين والتاريخ، كي لا ينزلق الناس إلى محارق الدين أو المذهب بوعي ومن دون وعي، فيبكون «البقرة المذبوحة» ويجنحوا إلى الانتقام أو الدفاع عن حقوقهم من منطلق ديني أو مذهبي ويغفلون قضيتهم السياسية الأساسية.

إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"

العدد 4679 - الإثنين 29 يونيو 2015م الموافق 12 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 4:06 م

      ا

      الفتنه في اللغه هي الإمتحان والإختبار والإبتلاء لا تعني الإستسلام للواقع المتردي والتغيير يحتاج الى ادوات إذا توافرت امكن التغيير ولكن اشيع لها معنى أخر من قبل المتسلطين لخدمة اجندتهم ولا علاقة لها بالدين والماضي والله سبحانه وتعالى يقول لا يغير الله ما بقوم حتى يغيرو ما بأنسهم

    • زائر 5 | 11:31 ص

      صقر الخليج

      سلمت أناملك يا طيبة

    • زائر 3 | 12:38 ص

      لا داعي للتشاؤم ... فالشعوب تتطور حسب مستوى إدراكها العقلي

      اليوم حركات الإسلام السياسي تعيش خريفها ... لا ندري ما هو القادم ... قد لا يكون أفضل من الذي قبله و لكن بالتأكيد إننا اليوم نعيش نهاية حركات الإسلام السياسي ... الشعوب العربية بعد الهزائم المتوالية التي مني به اليسار ... ذهبت تبحث عن شيء يمكنها به النهوض من مستنقع الهزيمة ... كان الجواب جاهزا: الدين .. صلي و صوم و تحجبي و كل شيء سيصبح أحلى من العسل ... المسلمون لا يحتاجون لقراءة أي شيء أو تعلم أي شيء لأن كل شيء موجود في القرآن و الإسلام صالح لكل زمان و مكان الخ .. اليوم يتضح خطأ هذه الفكرة.

    • زائر 2 | 12:11 ص

      ممتاز

      اعتقد ان هذا المقال يختصر الكثير من الحقائق او لربما الحقيقة الوحيدة الفاقعة (بقاء الحال على ما هو علي)
      تحياتي

    • زائر 1 | 10:14 م

      يجب ان نضع النقاط على الحروف

      يجب ان نضع النقاط على الحروف وان نقول الاشياء بتسمياتها بدون مجملات لان المجملات لاتبني الوطن والمستقبل يجب ان نقول الي من اخطاء انت ااخطات ونتقول الي من اخطاء المجتمع في حقه والرجع الحقه اليه كل الناس تعرف من داعش من يقف وراي داعش يكفي مجملات على حساب الوطن

اقرأ ايضاً