لم يعش شاعر الشرق وفيلسوف الاسلام محمد إقبال (ت 1938) حياة مديدة، لكنه عاش عمراً حافلاً بالبركة. ترك هذا العبقري الهندي تراثاً شعرياً ونثرياً عظيماً، وقد تضمن شعره ومضات روحية بديعة، وهو وإن وُلد في عائلة من البراهمة النبلاء اعتنقت الإسلام في عصور متأخرة، إلا أن والده كان متصوّفاً عميق التدين.
ومنذ بداية حياته المهنية مدرساً للتاريخ والفلسفة في الكلية الشرقية بلاهور، أخذ هذا العاشق للشعر والأدب ينشر محاولاته الشعرية الأولى التي أحدثت تحولاً هائلاً في الحياة الأدبية والفكرية بالهند. ظلّ إقبال متعطشاً للاستزادة من التحصيل العلمي فرحل إلى أوروبا مطلع القرن الماضي، وتابع تحصيله في جامعتي «كامبريدج» البريطانية و»ميونيخ» الألمانية، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وشهادة المحاماة في القانون.
وما يميز إقبال ليست عبقريته ونبوغه، ولا حصوله على أعلى الدرجات العلمية من الجامعات الغربية، بل ذلك الاستيعاب الواسع للحضارة الغربية وانحيازه العجيب لنداء الفطرة والإيمان، وتثبيت رؤيته الفلسفية والإيمانية من خلال ميراث شعري غزير، وإشراقات روحية ضمها سحر قوافيه التي يقف المرء أمامها مذهولاً. يقول:
ليس في ضوضاء هذي الأممِ نغمةٌ إلا أذان المسـلمٍ
ورغم أن إقبال يُعد الأب الروحي لفكرة تأسيس دولة خاصة بالمسلمين في القارة الهندية، تحفظ وجودهم وهويّتهم، وتمنع تراثهم وحضارتهم الإسلامية من الاندثار، وهو الذي أقنع السياسي البارز محمد علي جناح بهذه الفكرة عبر المراسلات بينهما، فحوّلها جناح إلى برنامج عملي، الأمر الذي تحقّق في 19 أبريل/ نيسان 1938 بعد وفاته بعقد من الزمن، إلا أن الأفكار والخواطر التي ضمتها دواوينه الشعرية وكتبه النثرية هي أبرز وأهم ما تركه للبشرية من بعد رحيله المبكر.
ألفّ إقبال تسعة دواوين شعرية، ضمّت حوالي اثني عشر ألف بيت من الشعر، منها حوالي سبعة آلاف بيت بالفارسية، وخمسة آلاف بيت بالأوردية. لم يكتب باللغة العربية لأنه لم يكن يتقنها إلى درجة القدرة على التعبير الشعري بها، كما كان يؤثر كتابة الشعر باللغة الفارسية دون الأوردية التي كان يقول أنها لا تتسع لمعانيه كما اللغة الفارسية. من دواوينه: «جناح جبريل» و»رسالة المشرق» و»ضرب الكليم» و»هدية الحجاز» و»الأسرار والرموز». كما ألّف بضع كتب نثرية تبرهن على استيعاب مذهل لفلسفة الشرق والغرب.
وقد ترجمت إلى العربية كل دواوينه، قام بترجمتها سفير مصر بباكستان في الخمسينيات، الأديب عبد الوهاب عزّام، والشيخ الأزهري الضرير الصاوي شعلان، وقد أبدع في صياغتها الشعرية الأديب السوري زهير ظاظا الترجمة النثرية لديوان «جناح جبريل» الذي نقتبس منه بعض الشواهد الشعرية.
كان إقبال رجل المحبة بحق، أحب الإسلام وكل ما يمت له بصلة، وأحب العرب لارتباطهم بتاريخ الإسلام وثقافته. لكن حبّه تجلَّى أعمق ما تجلَّي في تعلقه بالحجاز، أرض النبوة ومهبط الوحي. وفي ذلك كتب:
أنا أعجمي الحب إلا أنني أطلقت في الحرم الشريف لساني
كم ثوبَ إحرام على متضرِّع مزَّقْتُه باللحن من ألحـاني
صوت قيثارتي التي سمعوها أعجميٌّ لكنَّ لحْني حجازي
وكان يرى كل ما سوى العبودية لله ذلاً وتسوّلاً ومهانة. وفي ذلك يقول:
أنت عبد الله فالزمْ... ليس للحُرِّ تحوُّلْ ما سوى عز العبودية لله تسوُّلْ
تجلّت روح إقبال، الذي تعلم سبع لغات وأتقن عدة تخصصات، ومرآة فكره الصافية في شعره أكثر من نثره، فقد آثر لغة القلب على لغة العقل –رغم تمرُّسه بالصنعتين- فاختار الشعر مطيةً لأفكاره، لأن الشعر دفقات من الوجدان وومضات من العبقرية تقتحم القلوب دون استئذان، بينما يدخل الفكر إلى العقول ببرودة، وعبر مسار متعرّج من المقدّمات المنطقية الجافة.
آمن إقبال بأن أساس الالتزام الإسلامي هو المحبة القلبية الوالهة، لا المعرفة الذهنية الباردة. فالحب أعمق أثراً من العلم، والقلب أقوى سلطاناً من العقل، وقد عبّر عن ذلك واصفاً تجربته الشخصية في الحياة، فقال:
مضى إقبال هَوْنًـا في دروب الفكر واجتازا
فلما جاء درب الحـبِّ مال القلـب وانحازا
وفي مقارنةٍ بديعةٍ بين القلب باعتباره مستودع الأسرار والحقائق، والعقل باعتباره الدليل إلى سطحها الخارجي يقول:
دواء البصيرة هـذا الـدواءْ رجاؤك في كشف داء البصرْ
وما العقل إلا جدال العلـومْ وحرب الظنون ورجم النظرْ
مصيرك أعظم من وقفةٍ وأول معناه ذوق السفرْ
وسر اللآلئ خُلْد البريقْ وإلا فمعدنها من حجرْ
وما هي جدوى دم في العروقْ إذا كان يطفئ نار الفكرْ؟
على أن لغة القلب والحب عند إقبال هي قرين للكرامة ومرادف للعز، ذلك العز الذي يجسِّده الخليل (عليه السلام) وهو يحطّم الأصنام:
وجائزة الحرِّ غيرُ الخمورْ وغير الغواني وغير الخيامْ
على الطُّعْم يسقط من لا يطيرْ ومن لا يحلِّق فوق الغمامْ
هو الحب ينسيك وقع الجراحْ ... وتفضح سرَّك آثارُهُ
وما الحب إن لم تمتْ عـزةً؟ وما العيش جلَّلَه عارُهُ؟
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4672 - الإثنين 22 يونيو 2015م الموافق 05 رمضان 1436هـ