قال المحلل السياسي الأردني حمادة فراعنة إنه لا توجد تسوية مهما بدت إيجابية وواقعية ونبيلة وقابلة للتحقق في المدى المنظور، يمكن أن توفر العدالة للشعب العربي الفلسطيني. فالعدالة الحقيقية الوحيدة هي تلك التي تنهي المشروع الاستعماري الصهيوني برمته عن كامل أرض فلسطين العربية، وترغم المهاجرين الأجانب من اليهود كافة على العودة إلى أوطانهم من حيث أتوا. وغير ذلك لا يمت إلى العدالة والإنصاف بصلة.
ولكن هل تتوافر المعطيات المحلية الفلسطينية والعربية القومية والدولية الأممية لتحصيل هذه العدالة الناصعة وتسمح باستعادة الشعب الفلسطيني كامل حقوقه غير القابلة للتصرف؟
في العام 1974 وافق المجلس الوطني الفلسطيني خلال دورته الثانية عشرة على جدولة الهدف الفلسطيني ونضاله ووضع برنامج مرحلي يقوم على إقامة دولة فلسطينية على أرض الضفة والقدس والقطاع المحتلة في العام 1967 ومنذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا تطور البرنامج وأخذ شكله العملي، وغدا هدف إقامة الدولة الفلسطينية هو الطاغي على مجمل برامج فصائل المقاومة باستثناء حركة «حماس».
ومن هنا تتم معالجة وتقييم كل خطوة سياسية بمدى توافقها وانسجامها مع البرنامج الوطني الفلسطيني المرحلي، برنامج الدولة والعودة وتقرير المصير.
وأضاف فراعنة: جسد اتفاق أوسلو التدريجي المتعدد المراحل وتطبيقاته المرحلية المتمثل في سلسلة الانسحابات الإسرائيلية بدءا من غزة وأريحا أولا وانتهاء بآخر انسحاب إسرائيلي من مدينة الخليل أو من الجزء الأكبر من مدينة الخليل، جسد التطبيق العملي والفعلي للبرنامج الوطني المرحلي، مثلما جسّد نقل قضايا المرحلة النهائية إلى مرحلة التفاوض النهائية، معتمدا على منطق عملي كفاحي يقوم على تنفيذ قضايا مرحلية وتدريجية تخلف معطيات جديدة على الأرض تحسن المستوى التفاوضي وتجعل من الأرضية المستجدة ذات آلية محركة تقترب أكثر فأكثر من تحقيق الهدف الوطني.
حقق «اتفاق أوسلو» نقلة نوعية في مسار النضال الفلسطيني، إذ نقل الصراع من خارج فلسطين إلى داخل فلسطين وأنهى بذلك مرحلة وسلسلة الصراعات العربية الفلسطينية ليكون عنوان الصراع مع عدو الشعب الفلسطيني وحده دون سواه، والشعب الفلسطيني لا عدو له سوى عدو واحد هو ذاك الذي يحتل أرضه ويغتصب حقوقه ويمنعه من ممارسة حقه في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
سمح «اتفاق أوسلو» بعودة أكثر من 300 ألف فلسطيني إلى وطنهم وفي طليعتهم القيادة الفلسطينية، مثلما سمح بولادة الكيان الفلسطيني على أرض فلسطين ممثلا في مؤسسات السلطة الوطنية المنتخبة.
وتم هذا بشكل تدريجي من دون التنازل عن حق العودة المجسد في القرار الدولي الرقم 194. وثبت ذلك علميا في مفاوضات كامب ديفيد واقتراحات الرئيس الأميركي كلينتون ومفاوضات طابا، إذ تعذر التوصل إلى اتفاق بسبب رفض القيادة الفلسطينية الاقتراحات كافة لأنها لا تلبي التطلعات الفلسطينية ولا تستجيب لمتطلبات الحد الأدنى المقبولة فلسطينيا.
في إطار هذا البرنامج وفي سياق التطلع إلى تحقيق خطوات تدريجية ملموسة تسعى إليها القيادة الفلسطينية المتنفذة جرى الحوار والتفاوض والمبادرة نحو اتفاق جنيف.
وبعيدا عن مناقشات الصيغة والمحتويات وما تضمنته من بنود ومواد، سجل اتفاق جنيف اختراقا فلسطينيا قويا منظما للمجتمع الإسرائيلي وخلخلته وحقق المزيد من كسب الانحيازات الإسرائيلية لصالح عدالة وشرعية الأهداف المرحلية الفلسطينية.
اتفاق جنيف ليس نهاية الكون، وليس الاتفاق الأفضل لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، ولكنه أفضل اتفاق توصل إليه مفاوض فلسطيني حتى هذا الوقت، وذلك من خلال الذين بادروا وعملوا وصاغوا هذا الاتفاق بمتابعة وتدقيق ورضى واستحسان الرئيس ياسر عرفات، والقيادة المتنفذة المتبعثرة في منظمة التحرير وسلطتها الوطنية.
فالاتفاق يسجل لأول مرة قبول طرف إسرائيلي بحقوق اللاجئين وفق القرار 194 المتضمن مسألتي العودة والتعويض واعتباره أساسا لحل مشكلة اللاجئين. ومنذ صدور القرار 194 تم التسجيل في هذا الاتفاق موافقة قطاع من الإسرائيليين لتطبيق تنفيذ هذا القرار بشقيه التعويض والعودة، فالمواد المتضمنة في اتفاق جنيف تحمل مضامين تنفيذ القرار 194 كالآتي:
تنص المادة السابعة (بند 3) فرع (أ) على: «يحق للاجئين الحصول على تعويض عن لجوئهم وعن فقدانهم الممتلكات ولا يجحف هذا الحق بمكان الإقامة الدائم للاجئ، كما لا يجحف مكان الإقامة الدائم بهذا الحق».
وتنص المادة السابعة (بند 4) تحت عنوان «اختيار المكان الدائم للإقامة» على الآتي: «ينطوي حل الشق الخاص بمكان الإقامة الدائم في مشكلة اللاجئين على قرار مدروس من قبل اللاجئين يمارس بناء على الخيارات والأشكال المنصوص عليها في هذا الاتفاق... وتكون أماكن الإقامة الدائمة التي يحق للاجئين الاختيار فيما بينها». وأريد أن أنبه إلى الفقرة السابقة التي تقول، وتكون أماكن الإقامة الدائمة التي يحق للاجئين الاختيار فيما بينها، وهي كالآتي:
أ - فلسطين.
ب - المناطق في «إسرائيل» التي يتم نقلها إلى فلسطين من خلال تبادل الأراضي بعد خضوعها للسيادة الفلسطينية.
ج - دولة ثالثة.
د - دولة «إسرائيل». أي المناطق المحتلة العام 1948.
هـ - الدول المضيفة الحالية.
يتبين مما سبق أن الاتفاق يشير إلى المسألتين اللتين يضمهما القرار 194 في بنوده، وهما: العودة والتعويض وليس العودة إلى التعويض بل المسألتان معا، العودة والتعويض، والتعويض هنا يتضمن أيضا مسألتين التعويض عن الهجرة والإيذاء وفقدان الوطن والتعويض عن الممتلكات وذلك بسبب عدم وجود ممتلكات لكل فلسطيني، فالذي ليست لديه ممتلكات مسجلة باسم عائلته في فلسطين لا يعني فقدانه التعويض بل هو يملك حق التعويض عن فقدانه مواطنته ووطنه الفلسطيني.
وعن حق العودة، قال: أما حق العودة فهو واضح إلى ثلاثة عناوين، إما إلى فلسطين وهذا يتم من دون شروط ومن دون قيود، وإما إلى دولة ثالثة من دول المهجر سواء الدول المضيفة أو غيرها، وإما إلى دولة «إسرائيل» أي إلى المناطق المحتلة العام 1948 وهي الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل المختلطة، وعلى رغم إيجابية هذا البند فإن شرط العودة بموافقة الحكومة الإسرائيلية يجعل هذا البند مجحفا بحق العودة ويخلّ بمضمونه الإيجابي، الأمر الذي يتطلب من المفاوض الرسمي الفلسطيني بذل جهود مضاعفة لجعل هذا البند له معنى وقيمة طالما أن الاتفاق ليس رسميا والذين توصلوا إليه غير مخولين من شعبيهما وحكومتيهما.
مبادرة و«اتفاق جنيف» لم تشطب القرار 194، ولم تشطب حق العودة بل أكدتهما، وإذا كان ثمة ملاحظات جوهرية، فالاتفاق يتعارض في أكثر من بند وفي أكثر من موقع سواء فيما يتعلق بالسيادة الفلسطينية أو بالقدس أو بالمستوطنات مع استعادة القدس كاملة ومع إزالة المستوطنات بشكل كامل ومع استعادة السيادة على الأرض والجود والحدود والمعابر، وبالتالي فهي ليست خالية من الملاحظات الجوهرية التي تتعارض مع قرارات المجلس الوطنية الفلسطينية ومع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ولكن الذي يغفر للمبادرين إليها من الجانب الفلسطيني أنهم من ذوي الانتماء والتاريخ النضالي المشهود لهم ومن ذوي الانتماء الحزبي البائن (فتح وحركة فدا وحزب الشعب) وليسوا من الهواة المستقلين، وانهم لم يقوموا بهذا العمل تحت جنح الظلام وبعيدا عن أعين ومراقبة وتدقيق الرئيس ياسر عرفات واطلاعه وبمعرفته وبموافقته المسبقة، ولهذا كان حصيفا قرار المجلس التشريعي يوم الأربعاء الموافق 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، فقد رفض المجلس تبني الاتفاق وإعطاءه الشرعية لأنه اتفاق غير رسمي، ولم تتم المفاوضة بشأنه مع أطراف رسمية، ولكنه في الوقت نفسه رفض إدانة هذا الاتفاق أو توجيه الملامة إلى المبادرين إليه وغالبيتهم من بين صفوفه وأعضاء في المجلس، فالمجلس التشريعي قدّر أهمية اختراق المجتمع الإسرائيلي وأهمية قوى السلام الإسرائيلية في المعركة ضد الصهيونية وضد الاحتلال وضد اليمين الإسرائيلي صاحب مشروع «إسرائيل الكبرى»، ولذلك فإن اختراق المجتمع الإسرائيلي وشق صفوفه وكسب انحيازات من بين صفوفه لصالح عدالة وشرعية النضال الفلسطيني وأهدافه الوطنية تتطلب هذه المغامرة المحسوبة المنظمة وأهمية تفاعلاتها الإسرائيلية والدولية لمصلحة الشعب الفلسطيني.
الرئيس ياسر عرفات بحنكته فتح عدة قنوات ووافق على عدة مبادرات تستهدف اختراق المجتمع الإسرائيلي، فهو لم يوافق على اتفاق جنيف صراحة، ولكنه دعمه وأثنى على جهود القائمين عليه وأطلق لأول مرة لقب «قوى السلام الفلسطينية» على الجانب الفلسطيني منها مقابل «قوى السلام الإسرائيلية» الموقعين والشركاء في مضمونه وهو يفعل ذلك لأنه يعرف بخبرته في التفاوض مع الإسرائيليين أن الرحلة مازالت طويلة وصعبة وشاقة، فلماذا الاستعجال وشق صفوف الشعب الفلسطيني وقواه الحية بين من هو مع جنيف ومن هو ضد جنيف؟
إن الذين يتحكمون في القرار الإسرائيلي مازالوا ضد تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية وضد الانسحاب حتى من المدن الفلسطينية التي أعادوا احتلالها بعد سنة 2000، فكيف سيقبلون التفاوض على قضايا المرحلة النهائية؟ ولذلك، لا تنسوا الهدف المطلوب لدى ياسر عرفات وهو بكل بساطة إسقاط شارون وإعادته إلى مزرعته يلتهي بالبقر وليس بالسياسة
العدد 467 - الثلثاء 16 ديسمبر 2003م الموافق 21 شوال 1424هـ