العدد 4665 - الإثنين 15 يونيو 2015م الموافق 28 شعبان 1436هـ

في حضرة المكتبة

عصمت الموسوي

كاتبة بحرينية

ضمن مبادرتها المتميزة للاحتفاء بالشخصيات البحرينية العلمية والأدبية والسياسية وتسليط الضوء عليها وتعريف الرأي العام بدورها ومنجزاتها، أقامت صحيفة «الوسط» مطلع الأسبوع الماضي فعاليةً للخطيب العدناني السيد محمد صالح عدنان الموسوي.

والواقع أن الفعالية أحاطت ببعض جوانب شخصية الخطيب ومسيرة والده السيد عدنان مؤسّس الأوقاف الجعفرية وموثّق أراضيها وأملاكها، وقد تحدّث أبناء الخطيب وأصدقاؤه ومعارفه وكاتب سيرته عن المنعطفات المهمة في مسيرته الحياتية، وتأثير الدراسة في الهند في تشكيل شخصيته المتفردة، لكن تبقى ثمة أسئلة جديرة بالطرح: ترى هل اكتسب الخطيب العدناني صفة التسامح وقبول الآخر والتعاطي مع الاختلاف بروح رياضية - بلا تعصب ولا تشنج ولا غضب - من خلال ثقافته الموسوعية والتي لم تقتصر على حقل واحد من المعرفة، أم بسبب دراسته في الهند في عمرٍ مبكرٍ وتشكّل وعيه عبر اتصاله بعالم غني الثقافة وشديد التنوع والاختلاف، أم أنها طبع أصيل ومتجذّر في شخصيته وطباع عائلته الدينية المتحدّرة من بيت علم ودين عريقين؟ أم إنه كان بصدد تحقيق غايات كبرى في حياته، وان تلك إلا صفات مكتسبة تدرب عليها لتسهيل بلوغ هذه الغايات؟

انتهج الخطيب العدناني فلسفة حياتية فكرية واجتماعية ذات طابع مرن ومسالم على غرار شخصيته الهادئة، رفض مهنة القضاء والأوقاف التي امتهنها أبوه فكسر حلقة توريث الوظيفة الدارج في مجتمعاتنا. اختار لنفسه فضاءً مهنياً معتاداً في ذلك الوقت، بيد أنه لم يقسر أحداً من أبنائه على محاكاته.

مات الأب وقد أرسى دعائم الوقف الشيعي ذي الثروات الهائلة، لكن الطفل اليتيم عاش فقيراً ومعوزاً، عوَض يتمه المبكر ووحدته وانعدام وجود أشقاء وشقيقات في حياته بإنجاب ذرية كبيرة. نظر إلى التاريخ الإسلامي بموضوعية وتعاطى مع شخصياته الجدلية أو المنبوذة بطريقة أقل قسوةً من مجايليه. اختبر جرأة الطرح الديني في مطلع أعوام السبعينيات، لكن العاصفة التي ووجه بها وضعته أمام خيارين: أما مواصلة هذا الدرب الشاق وتحمل عواقبه الوخيمة أو المسايرة وتوخي السلامة. امتلك لسانين، واحداً للعامة وآخر للخاصة. تبحّر في التاريخ الإسلامي وكانت له استنتاجاته الخاصة وغير المسبوقة التي سرب بعضها في كتبه، فيما عدا الخشية من الاقتراب من المحظورات الدينية أو المذهبية.

كان في حلٍّ من التمسك برضا الناس على الصعيد الاجتماعي. ادخل المذياع والتلفاز إلى بيوته الأربعة قبل شيوعها وإجازة تحليلها. أقام علاقةً محبّبةً مع التصوير الذي أيضاً كان محرّماً ومستهجناً في أوساط العامة ورجال الدين خاصةً. صوّر أبناءه وعائلته وأصدقاءه وزيّن بها جدران بيوته. امتطى «الموترسيكل» للتنقل بين مجالس القراءة في أعوام الخمسينيات، وظلّ يردد: «من قال إن وسائل العصر الحديث ممنوعة على رجال الدين»؟

أمضى عشرين عاماً في تتبع سيرة عائلته وشجرة نسبه العريقة، وهو تعويضٌ آخر عن ذلك الوضع العائلي القاسي الذي وجد نفسه فيه كطفل دون العاشرة يتيم الأبوين، ويبدو كمقطوعٍ من شجرة.

المكتبة والتدوين والاستغراق في القراءة طقس أسطوري في بيوت الخطيب العدناني الأربعة، وهي محاطةٌ بقدسية ورهبة. هدوؤه وسكوته وحلمه يتبخر إذا مسّ أحدهم ما يعتبره «قدس الأقداس»: مكتبته، حتى في غيابه يخشى أبناؤه الاقتراب منها.

المكتبة هي مكانه الأثير. هي مجلسه وساحة خلوته، ومصدر إلهامه ورزقه وسعادته. الكتب مجلّدةٌ بجلادة ذات لون واحد ومبوّبة ومصفوفة ومختومة باسمه. يكتب فقط بأقلام «الباركر» الفاخرة وأحباراً عالية الجودة. يقرأ ويدوّن ما معدله سبع ساعات في اليوم، كأنه في كل يوم على موعد مع امتحان جديد. يقرأ والمذياع مفتوح، لا يلتفت إلى أحدٍ إذا كان مستغرقاً في القراءة أو التدوين. الاستعارة ممنوعة، يكره من يطلب منه كتاباً. يرشده على اسم الدار أو يطلب منه أن يقرأه في حضوره وأمام ناظريه.

أثناء سفره وغيابه تُقفل المكتبة ولا أحد يعرف مكان مفاتيحها. لا يفرّق بين كتاب وكتاب، فكل الكتب عزيزة عليه، وكل الكتب غير قابلة للإعارة، منظّم جداً ولا كراكيب على طاولته سوى كتب المادة المبحوثة. يقرأ الكتاب الجديد في يوم واحد، يعمل مسحاً شاملاً وسريعاً على محتواه بحثاً عن ضالته والمعلومات التي يريدها فيه.

لم يراكم ثروةً عينيةً أو نقديةً في حياته. لم يوجد صندوق «التجوري»، ذلك الصندوق الحديدي الذي يعد خزينة لحفظ الأموال والذهب والمجوهرات والوثائق المهمة، في بيوته الأربعة. المكتبة هي «التجوري» التي خصّص فصلاً كاملاً عنها في وصيته، وطلب من أبنائه أن توضع في حباب العين.

في الفعالية التي أقامتها «الوسط» تبدّت شخصية العدناني رجل الدين العصري المحب للحياة والفن والثقافة المتنوعة.

عاش هادئاً وقانعاً وبسيطاً ومسترخياً وعارفاً لنفسه ومدى قدراته، مدركاً لما يريد وغارقاً في بهجة شغفه وعشقه للقراءة والتدوين والتأليف.

إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"

العدد 4665 - الإثنين 15 يونيو 2015م الموافق 28 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 5:04 ص

      الرجاء سيدة أن تسلطي الضوء في مقال قادم على مؤلفاته وما يمتلك من مخطوطات وكتب نادرة

      الحديث منكم أروع،ونحن نتخذه قدوة لنا فتراث السيد ضخم من المؤلفات والمخطوطات نرجو أن تسلطي الضوء عليه،كما ونأمل منكم أنتم عائلته الكريمة أن تتحركوا لنشر باقي تراثه خصوصا الكتاب الذي وثق فيه أحداث التسعينيات من القرن المنصرم،ونتأمل أن يطبع مما كان يملكه من مخطوطات قديمة إن لم تكن تلك المخطوطات مطبوعة حالياً،الغريب في كل عوائل هؤلاء الأفذاذ من الماضين أن بعض عوائلهم هم بخير ماديا لكنهم لا ينشرون تراث آبائهم وأجدادهم فهل ينتظرون أن يصبحوا فقراء ثم يتمنون أن ينشروا تراثهم، والأمثلة كثيرة فهم مقصرون.

    • زائر 2 | 12:33 ص

      الكاتب

      وكاتب سيرته؟!! من هو كاتب سيرته؟ أين نجد هذه الكتاب؟

    • زائر 1 | 11:01 م

      سبحان الله

      رحمة الله علي كل صالح خاصة اذا أضاف حسنات علي البشرية و ترك ذرية صالحة تستمر علي خطواته.

اقرأ ايضاً