يجمع الكل على نزاهته، يثق الكل بنظافة يده، يعرف الكل تعففه، يرى الكل زهده. لم أجد إجماعاً على زهد وتعفف شخص سواه من رفاق الدرب... ذلك هو الشيخ محمد مهدي الآصفي.
لم يستأثر بما يصله من مالٍ فيكتنزه لورثته، ولم يوظفه في رفاه عائلته، ولم يستغله في ابتزاز حاجة تلامذته للعيش، ويساومهم على رغيف الخبز، فيسطو على إنتاجهم الفكري وينشره باسمه.
وجد الفقراء والمساكين ملاذهم لديه، واكتشفوا أبوته لهم جميعاً، وعرفوا أن سعادته تكمن في رعايتهم، وتأمين متطلبات حياتهم، وهو ما لم يعثروا عليه لدى سواه.
من هنا تحدث وكتب كل من يرثيه عن البعد الروحي في شخصيته، وأخلاقيات الزهد والتعفف في سلوكه، حتى تساءل بعض الأصدقاء، قائلاً: لماذا يُختزل الآصفي بذلك، ولا يشار إلى الأبعاد الأخرى في شخصيته. فقلت له: علمه وتفسيره وفقاهته لا ينفرد بها، لكن حياته الروحية وأخلاقيات الزهد والتعفف في شخصيته مما ينفرد به. وهذه السمات هي ما تسامت بها شخصيته، فاستقطبت الفقراء والمساكين. وجعلته أسوةً ومثالاً استثنائياً، في زمنٍ يفتقر فيه الناس للأسوة العملية التي يهتدون بسلوكها وتجربتها الروحية.
رغم مايجتاح عالمنا من حزن، ويتجرعه من مرارة، ويغرق فيه من ظلام، غير أن في الحياة بؤر ضوء يبحث عنها الناس، كي يستلهموا الحلم بغد أجمل، ويتذوقوا ألوان صور خرائط الوجود المدهشة. بؤر الضوء هذه هي شخصيات؛ روحية، أخلاقية، واثقة بالله، متفائلة، مفعمة بحب الله والإنسان والعالم، ملهمة. الثقة بالله تبدد اليأس، تشفي المرء من العدمية، تضئ ما هو مظلم في عالمه الجواني، تبعث لديه التفاؤل، وتمنحنه القدرة على عبور ما تمتلئ به دروب الحياة من أشواك.
ليس هناك من وجع إلاّ ويمنح الله المرء القدرة على احتوائه وتحمله. عبر هذه الشخصيات الروحية الأخلاقية الملهمة يطمئن الانسان أن للعالم إلهاً لا تغيب رحمته، ولا ينقطع لطفه، ولا ينضب معين عنايته. ويشعر أنه يمتلك معنى للحياة، وسبباً للبقاء، ولديه ما يوصله بالسماء، ويربطه بالأرض. الثقة بالله وحب الله هما جسر العبور من الأرض إلى السماء، بهما يستطيع الإنسان مقاومة أوجاع الحياة. ويقوى على تحقيق ذاته، وأن يكون هو.
لاحظت أن انهيار التديّن لدى بعض الشباب يرتد إلى غياب المثال المُجسَّد للتدين الإنساني الروحي الأخلاقي. ناقشت بعضهم ساعات طويلة، لماذا يمضي إلى مديات قصية في مواقفه السلبية من الدين، لم يعلن أحد منهم أمامي إلحاده بالله، ولم يحاجّني ببراهين المتكلمين على وجوده تعالى، وإنما اتفقوا جميعاً على أنهم يقرأون عن حياة روحية، ويسمعون حديثاً مكرّراً عن مفاهيم أخلاقية، ومواقف إنسانية، غير أنهم يفتقدونها فيمن ينادون بها، ولا يرون ملامح صورتها في سلوكهم، ولم يعثروا على من يهتدون بسيرته العملية في المحيط الذي يدرسون ويعيشون فيه.
تنبهت إلى أن البواعث العميقة للتدين ترتبط عضوياً بحساسيات ومشاعر الإنسان وعواطفه، وأن الإنسان بطبيعته لا يهتدي إيمانياً إلاّ بالقدوة العملية الملهمة، تلك القدوة التي تسقيه الارتواء الروحي، وتمنحه السلام النفسي، وتغمره بالرأفة والشفقة، كي تخلصه من الاغتراب، وتشعره بالحماية والأمن في الحياة.
الناس كي يؤمنوا؛ يفتشون دائماً عن نموذج بشري مُجسَّد للإيمان المتواشج عضوياً بالحب، والحب المتواشج بالإيمان. ويحتاجون إلى من يشعرهم بوجود الله في حياتهم، لا من يثبت لهم وجوده كفكرة مجردة، لا صلة لها بحياتهم، مثلما يفعل المتكلمون واللاهوتيون. يحتاجون إلى من يوقظ أرواحهم، ويوصلهم عضوياً بالله، بوصفه المنبع الحقيقي للطاقة الحيوية الايجابية الفاعلة، التي يتغلبون بها على ذلك الوجع الأسود المتفشي في العالم، والذي لا تطيقه قدرة عامة البشر.
الناس لا يمكنهم الشعور بالله خارج إطار العلاقة بالبشر. يريدون إيماناً حياً، يمشي في الأرض، يعيش مثلما يعيشون، يتحسس أوجاعهم، يسقيهم مطر الرحمة الإلهية من خلال ما تفيضه نفحات روحه عليهم. يتضامن معهم عملياً، في كل ما ينهك حياتهم، ويجتاحهم من عذابات، ويسود عالمهم من آلام. الناس لا يستطيعون العيش من دون عطف وشفقة وتراحم وحنان.
الأخلاقيون الروحانيون في كافة الأديان والفرق والطوائف دافئون جذابون، لأنهم يتدفقون شفقةً وحناناً على الناس، ويمنحون حياتهم المعنى العملي الذي تفتقر له. وذلك ما تجسّده حياة نبينا (ص) وأخلاقيات سيرته العملية، وسلوكه الكريم، الذي يطبعه؛ الرفق بالناس والعطف عليهم، والرحمة بهم. كانت سيرته مرآة ترتسم فيها القيم والأخلاق الربانية، التي تحدثت عنها الآيات القرآنية، فهو (ص) رحمة للعالمين: «وما أَرسلناك إِلا رحمةً لِلعالَمِين». (الأنبياء، الآية107). «فِبما رحمةٍ من اللهِ لِنتَ لهم ولَو كُنتَ فظّاً غليظَ القَلب لانفَضُّواْ مِن حولِك». (آل عمران، الآية 159). وهو (ص) مثال أخلاقي مجسد: «وإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم» (القلم، الآية 4). وإن هدف رسالته يتلخص في بناء الحياة الأخلاقية «إِنَّما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مكارِمَ الأَخلاقِ»، رواه البيهقي، «السنن الكبري».
لفتني الحزن والأسى والشعور باليتم الذي عمَّ مجموعة من تلامذتي برحيل الشيخ الآصفي للملكوت الأعلى، فقد كتب لي أحد الكتّاب المعروفين، من تلامذتي المقيمين في أستراليا أنه «استمر يبكي ساعات طويلة، فور علمه بوفاته». مع أنه ليس من رفاق دربه، ولم يكن على علاقةٍ مباشرةٍ مع المرحوم الآصفي، غير أنه كما ذكر، لن ينسى أبداً مواقفه الإنسانية في احتضانه وزملائه، وتأمين ملاذ لهم، يوم أهملهم الآخرون، وتركوهم مشردين في قم قبل عشرين عاماً، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ويتلصصون في مكب النفايات ليلاً، عساهم يعثرون على كسرة خبز، أو بقايا طعام.
وأورد فيما يلي اقتباساً - مطولاً - لما كتبه صديقي وتلميذي علي المدَن، ذلك أنه أحد الشهود الأحياء على بعض مواقف المرحوم. كتب الأخ المدَن على صفحته في الفيس بك، بعد علمه بنبأ وفاة الشيخ الآصفي: «الآصفي رحمه الله صاحب معروف عليَّ، وعلى مجموعة كبيرة من طلاب أهل البصرة، الذين التحقوا بمعاهد الدراسات الدينية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي. كنت قد انتقلت للدراسة في قم، وأنا بالكاد أبلغ (14) من عمري. لم أكن أعرف أحداً في المدينة، التي بدت لي وقتها كبيرة ومزدحمة. بدأت الدراسة وأنا لا أملك مكاناً يأويني. قضيت ثلاثة أشهر وأنا أنام في الشوارع، وتحت الجسور، وبين أشجار الحدائق العامة. أفترش الأعشاب، وأغتسل بمياه سواقي الأشجار، وأتناول وجبة واحدة في اليوم في أفضل الأحوال. وقد حدثت معي قصص يضيق الوقت الآن عن سرد تفاصيلها. لم أكن وقتها بمفردي، بل معي أكثر من 45 شخصاً موزّعين على مجموعات. آنذاك لم نترك باباً لم نطرقه لحل مشكلتنا، ولكن دون جدوى! ثم جاء الآصفي «وتلته شخصيتان لن أذكر اسميهما الآن»، ليفتح لنا قلبه ومكتبه. زرناه في مكتبه أولاً، وتحدثنا إليه، بل إن أحد أصدقائي قرّعه بخطاب غليظ وصوت مرتفع، وهو منفعل جداً، فما كان رد الآصفي إلا الإنصات وهو مطرق الرأس. ثم رفع رأسه وابتسم، وربت على كتف صديقي، ووعدنا أنه سيزورنا تحت «جسر نيروگاه» حيث كنا نقيم. وهذا ما حدث فعلاً، ثم استأجر لنا بيتاً، ومنحنا كل ما نحتاج إليه من فراش وطعام وأوانٍ وغير ذلك، وبقي يرعى الطلاب، وهو ينقلهم من بيت لآخر، حتى عُرف البيت الأخير بـ «بيت شوشتر»، لأن أغلب الذين سكنوا فيه قدموا من مخيم شوشتر للاجئين العراقيين. ومع أن توفير السكن وجميع ما يحتاجه الطلاب في ذاك الوقت كان أكثر من ضروري وحاسم في التأثير على قرارنا بإمكانية مواصلة الدراسة، إلا أن ما كشفته السنوات اللاحقة كان شيئاً أعمق دلالةً في معرفة شخصية الرجل. فإذا كان البعض يفترض أن مد يد العون من قبل رجل دين إلى شباب لا ملاذ لهم، يرغبون في طلب العلم، هو أمر «متوقع»، وهو ما لم يحصل وقتذاك حتى بعد قيامنا بجولة مرهقة وطويلة على العديد من الشخصيات البارزة، فإن ما هو «ملفت» أن يكون هذا العون بلا «شروط» ولا «توجّهات» ولا «مقابل». لم يتحدّث به أحد، ولا أريد به أن يكون دعاية لأحد: لا لحزب، ولا لمرجعية، ولا لشخص، ولا لعقيدة أو فكرة معينة. هذا حدث في وقت كانت سوق التحيّزات رائجة، والابتزازات على أشدّها. وهو ما يبرهن في تصوري على أن «الآصفي» لم يكن فقط رجل دين صالح فقط، وإنما هو أيضاً نموذج رائع على الاستقامة والحرية والاحترام معا». (انتهى ما كتبه علي المدَن).
رحم الله الصديق الروحاني الأخلاقي المفسّر الفقيه الشيخ محمد مهدي الآصفي، الذي تفوق بزهده ونسكه، وورعه وعفافه، وصدقه وإخلاصه، وتجسيده لقيم الإيمان وأخلاق النبوة. لقد كان المرحوم العلامة الآصفي مثالاً استثنائياً، لم يتعلم منه الكثير من رفاق دربه: التعفف عن التهافت على المال، والشغف بالجاه، والهوس بالسلطة. يؤسفني أن معظم من يزعمون تمثيل مدرسته، ويتفاخرون به، لا يشي سلوكهم بزهده، ولم يتمثلوا قيمه الروحية وأخلاقياته الانسانية. «إِنَّ في ذلك لَذكرى لِمَنْ كان لهُ قلبٌ أوْ أَلقَى السمعَ وَهُوَ شهِيدٌ». (سورة ق، الآية 37).
إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"العدد 4662 - الجمعة 12 يونيو 2015م الموافق 25 شعبان 1436هـ
نعم كان كذلك
إلى رحمة الله و عفوه ورضوانه أيها الشيخ الجليل. لقد كان هذا العالم بحق مثل ماوصف وفوق ذلك. لقد فقدنا بفقدك ياسيدي العلم والحلم والسماحة والتواضع والأخلاق فرحمك الله وحشرك مع محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين عليهم السلام أجمعين. الفاتحة.
مقال جميل
رحمك الله أيها الشيخ التقي النقي
ماشاءالله
ليكون نبي واحنا ماندري شخليت حق الي ماتعلم إيمانهم عن شمالهم