بخروج جمعيتي «المنبر التقدمي والديمقراطي» و«الوسط العربي الإسلامي» من تحضيرية المؤتمر الدستوري تنتهي فصول التردد في طرح الخيار الدستوري كما هو من دون رتوش، ولكن تجاذبات التحالف السداسي أخذت مأخذها من هذا المؤتمر، بحيث أصبح الجميع يتكلم عن تقلص عدد المناصرين لحل الإشكالية الدستورية من العمق، في حين كان الاختلاف والإصرار على التشبث بالمواقف وعدم مراجعاتها سيفضي إلى هذه النتيجة الحتمية بكل تأكيد، وكان من المفترض أن يكون الحسم من البداية، ولكن كان ما كان، وخيرا ما حصل وما كان.
قصة أخرى يبدو أنها تتحرك كخيار جديد لقطع الطريق على المؤتمر الدستوري، بدأت بـ «وشوشات» في صفوف الجمعيات المقاطعة عن اجتماعات تعقدها «المنبر» و«الوسط العربي» مع حلفاء جدد بغية إيجاد توازن في معادلة المقاطعين والمشاركين عبر إشراك جمعيتي «الميثاق» و«التجمع الديمقراطي» في المؤتمر الدستوري، ثم ورشة جمعية «المنبر الإسلامي» الذي قادها مدير معهد NDI فوزي جوليد، ومهدها بـ «تلفيقات دستورية» تحت عنوان قراءة أخرى لدستور 2002، نشرت في الصحافة المحلية، إذ كان تصور جوليد - كما هو تصور الورشة - ألا حاجة لتغيير دستور 2002.
الحركة الأهم في قطع الطريق على المؤتمر الدستوري، والتي يبدو أنها خرجت من عقال التهدئة السياسية، واتجهت مباشرة إلى فرض الأجندة السياسية، ما سيقوم به «النواب الوطنيون الديمقراطيون» المنتمون تنظيميا إلى «المنبر الديمقراطي» من طرح صيغة للتعديلات الدستورية على المجلس النيابي، عبر تناغم وترابط واضح بين الإسراع المباغت في طرح هذه التعديلات، بعد أن كانت مؤجلة إلى دور الانعقاد الثالث، وكانت أجندة مطالب الناس المعيشية، التي لم يتحقق منها شيء هي الحاكمة، وبين خروج «المنبر الديمقراطي» من المؤتمر الدستوري، بعد فرض اشتراطها بضرورة إشراك «النواب الوطنيين الديمقراطيين» من دون غيرهم في المؤتمر الدستوري، وبأن تكون التعديلات عبر آلية دستور 2002، وكان الجواب على عدم قبول الجمعيات الأربع المقاطعة بهذه المطالب، بتعجيل صيغة التعديلات المعدة سلفا باعتبارها آخر الكيل.
لذلك، وجب تسجيل موقف سياسي وتاريخي واضح، بأن الهدف ليس التوافق على وجود «أزمة دستورية» والبحث عن طريقة واقعية وعقلائية لحلها، وإنما الهدف تسجيل موقف وليّ ذراع بأي وسيلة، والانتصار للخيار السياسي أيا كان مستوى التأزم الذي يعيش فيه، وهذه مشكلة الواقع السياسي في البحرين عموما، سواء في صفوف الجمعيات المعارضة أو من تسمى بهذا الاسم، أو في صفوف الحكم.
لمعالجة موضوع التعديلات الدستورية المرتقب طرحها على المجلس النيابي في الأيام القريبة الآتية، وفق الآليات التي أقرها دستور 2002، يجب فهم مجموعة اعتبارات أساسية بخصوص هذه التعديلات:
الاعتبار الأول: أن هذه التعديلات بحسب ما صرح مقدموها ستمس تعديلات في نظام المجلسين، بجعل الرئاسة مثلا في المجلس المنتخب، كما ستمس مسألة صوغ القوانين وحصرها في المجلسين وغيرها من التعديلات.
من الواضح أن المادة المتعلقة بنظام المجلسين والمادة المتعلقة بالحكم الوراثي وحصره في أسرة آل خليفة ومادة أن دين الدولة الإسلام. هي مواد مقفلة لا يجوز تعديلها، ما يعني في التصور الأول عدم جواز تعديل نظام المجلسين، ولكن توجد «تخريجة مقبولة» بأن المقصود من عدم تعديل نظام المجلسين أي الإبقاء على نظام المجلسين بصفته جزءا من هيكل الحكم، إلا أن كيفية تشكيل نظام المجلسين من حيث العدد والصلاحيات أمر مسكوت عنه ويمكن تعديله، ولكن السؤال: هل يمكن التعديل وفق الآلية الحالية، التي سببت جدلا في أوساط التحالف السداسي؟
والجواب على ذلك: أن التعديل وفق هيكلية القرار التي يتناوبها المجلسان والسلطة التنفيذية غير ممكنة بل مستحيلة، وذلك لنقطتين أساسيتين:
الأولى: لا يمكن لآلية الإعاقة للمشروعات والقوانين أن تكون آلية إقرار لها، وخصوصا إذا كانت التعديلات لها علاقة بصلاحيات آلية الإعاقة، إذ لا يمكن مثلا أن تقول لمجلس الشورى أقر قانونا يقضي بأن تكون منزوع الصلاحيات، أو أن تكون الرئاسة في مجلس النواب بدلا من مجلس الشورى، كما لا يمكن أن تطالب السلطة التنفيذية مثلا بصوغ قانون يقضي بعدم صلاحياتها في صوغ القوانين، هل يمكن عقلا أو قانونا أن يحدث ذلك في أي بلد من البلدان الديمقراطية؟ إن قبول هذه الأطراف بإجراء تعديلات وفق هذه الآلية يعني فيما يعينه عدم الاعتراف بهذه الآلية واستحقاقاتها ونواتجها الطبيعية، أو القبول بتغليب منطق السياسة والمزاج في رعاية حقوق الناس، وهذا لا يجوز في دولة المؤسسات والقانون، والقبول به تأسيس لعرف سيئ يجوز اختراق القوانين التي ترعى حقوق الناس، انتصارا للمزاج السياسي والتوازنات التي تتحرك باتجاه قطع الطريق على أي نهج تصحيحي، حتى لو كان سلميا ومعتدلا؟
الثانية: واضعو الدستور الجديد، أحدثوا تغييرات جذرية في نصوص ومواد دستور 73، وخصوصا تلك المتعلقة منها بصلاحيات السلطة التشريعية، كما أضافوا له موادا أشبه بضمانات سياسية تحسب لصالح السلطة التنفيذية، مثل إمكان حل البرلمان من دون إرجاعه، أو الدعوة لانعقاده بعد حله من دون إجراء انتخابات، في حين أبقوا على مادة «أن التعديل لا يكون إلا جزئيا»، ما يعني أن إجراء أية تعديلات على دستور 2002 قد تطول، فما هو طموح النواب تحديدا من هذه التعديلات؟ هل إجراء تعديلات شكلية لا تؤسس لأمن سياسي في الممارسة الديمقراطية، أم إجراء تعديلات جوهرية؟ وكيف السبيل إلى ذلك، وآلية الإعاقة إضافة إلى قيد التعديل الجزئي يمثلان قمة الإحكام في عدم القدرة على إجراء تعديل؟
من هاتين النقطتين، يمكن فهم مسألة في غاية الخطورة، وهو أن واضعي الدستور الجديد، حينما أسسوا لعدم إمكان تعديل المجلسين، تماما مثل عدم تغيير نظام الحكم ولا دين الدولة، إنما أرادوه شكلا ومضمونا، وإن كانت «التخريجة السياسية» توحي بعكس ذلك، ما يعطي انطباعا أن إرادة التغيير غير ممكنة من الداخل، ولا يمكن اللعب عليها إلا في حال وجود المزاج السياسي الدافع بهذا الاتجاه، شرط تجاوز الآلية تجاوزا كليا، أي إخراجها من كونها معادلة شرعية في تغيير القوانين، ويبدو أن هذا مطمح الكثير من السياسيين، ولكن لا تبدو بوادره موجودة حاليا، كما أنه لا يعطي مساحة للتفاوض بشأن التعديلات المطلوبة، وإنما يفرضها فرضا من طرف واحد بأية كيفية جاءت، والهدف منها خلخلة الموقف العام لما يسمى بـ «المتشددين»، وخلق مزاج سياسي يتقبل هذه الآلية على طريقة «خذ وطالب».
الاعتبار الثاني: إذا أصر النواب على إجراء هذه التعديلات، فمن منطلق احترامهم للآلية التي أقروا بإمكان التغيير من خلالها، ومن منطلق احترامهم لإرادة ناخبيهم الذين أوصلوهم لهذه المقاعد وفق قاعدة إمكان التغيير من الداخل، فيجب عليهم أن ينزعوا الصفة النيابية عنهم، وينطلقوا من خلال كونهم مواطنين يرغبون في الإصلاح الدستوري، فهذا أفضل لصدقية مطالبهم وأمضى لإرادتهم في تغيير الأوضاع السياسية والدستورية الصعبة، وأكثر صدقا مع ناخبيهم في التوجهات وفيما وعدوهم به، وعليهم أن يتقبلوا أيضا أن تكون التعديلات من خارج المؤسسة البرلمانية الحالية لعدم إمكان إجراء تعديلات من خلالها، ولكون التعديلات من خلال المؤسسة البرلمانية ستفرض إيقاعا واحدا في التغيير لا إرادة ثنائية ومشتركة، ما يعني أنهم يتحملون عمليا نتائج هذه التعديلات إذا كانت دون الطموح، ويدخلون البلد في درجة أكبر من المراوحة السياسية وعدم الأمن السياسي وعدم التوافق أيضا.
الاعتبار الثالث: إذا كانت الحقيقة أن إجراء التعديلات غير ممكن من خلال المؤسسة البرلمانية الحالية وفق آلية إقرارها، أليس الأصح تدعيم موقف المقاطعين بغية إيجاد خط رجعة لتصحيح الأوضاع، وعدم رمي البيض في سلة واحدة؟ أليس الأصح إقرار آلية مشتركة بين الحكم والمعارضة بحسب ما توافقا عليه في الميثاق عبر تشكيل سلطة منتخبة، يكون توزيع الدوائر فيها عادلا، لإيجاد تمثيل سياسي حقيقي لتوجهات الشارع بكل أطيافه، بعيدا عن التوزانات المخلة التي تم تكريسها، فذلك أدعى للأمن السياسي وأوقع في تكريس الوحدة الوطنية، وأحفظ لمصالح العباد والبلاد.
بعد ذلك، يمكن إثارة مجموعة إثارات أساسية تتعلق بالنظرة إلى موقف المقاطعة، فقد حان الوقت لإبرازها والإجابة عليها بوضوح:
النقطة الأولى: يثير الكثيرون أن قرار المقاطعة قرار تصادمي، ويحمل في طياته شحنات عنف، ويوصل البلد إلى طريق مسدود لعدم إمكان تحقيق مطالب المقاطعين، والجواب على ذلك: بأن قرار المقاطعة على المستوى المرحلي والاستراتيجي أكثر سلمية من قرار المشاركة، لأن المشاركين دخلوا مضطرين للتجربة البرلمانية، وهم يعلمون بنقص الأدوات الدستورية، وعدم قدرتهم على إحداث توازن بينهم وبين السلطة التنفيذية، فضلا عن كونهم غير قادرين على منع العمليات الكبرى التي تقوم بها السلطة التنفيذية مثل التجنيس وغيره، بل قد يدخلون في عملية الإقرار لهذه المشروعات، ما يعني أنهم معرضون للفشل في مهماتهم ووعودهم التي وعدوا الناس بها، وهذا سيضاعف شحنات الاحتقان عند الناس الموتورين من الأساس، وسينقلب الأمر على الجميع بصورة لا تحمد عقباها، فالدخول مع عدم التوافق على المشروع من الأساس لن يفيد في طرح مبررات الفشل السياسي على الناس، وهذا ما التفت إليه المقاطعون تحديدا.
إن إصرار المقاطعين على ضرورة التوافق مع الحكم سواء على مستوى الآلية أو الشكل المطلوب للسلطة التشريعية، يعد ضمانة أساسية للأمن السياسي لكل الأطراف، ولا يمثل أي جور على أي طرف، وقبل ذلك هو بحاجة إلى تسوية سياسية وجلسة حوار بين الحكم والمعارضة لمعالجة الملفات غير المرغوب فيها قبل البدء بالاستحقاقات الكبرى، ليكون بالإمكان دخول الجميع للتجربة بقلوب وعقول مفتوحة على المستقبل لا على تداعيات الماضي، وعدم التوافق على الآلية سيشد جميع الأطراف إلى الماضي، ولن يتحقق المطلوب من الإصلاح.
النقطة الثانية، يتساءل الكثيرون: أين برنامج المقاطعة؟ وهو سؤال يختزل في ذاته نوعا من الخداع والتمويه، فالكثيرون يعرفون أن الجمعيات السياسية لم تطرح برنامجا للمقاطعة، وهي المخولة بذلك، وذلك لأسباب منها عدم وجود نفس طويل في مواجهة الاستحقاقات الكبرى واستحقاقات التغيير، والنظرة المولعة بما في اليد حتى لو كان عنبا حامضا، وعدم وجود الرؤية الواضحة والاستشراف المستقبلي لطبيعة التوازنات السياسية في ظل واقع تنعدم فيه أبسط حالات الأمن السياسي للممارسة والديمقراطية.
نعم، مضى عام وأشهر على قرار المقاطعة، والخلاف يدب بشأنه في أبسط جزئياته، فهل يمكن الحكم على قرار لم يطبق من الأساس؟ مضى عام وأشهر على قرار المقاطعة، والبعض يرنو من الآن إلى التجربة المقبلة، فهل يمكن أن ينجز شيئا لإنجاح هذا الخيار؟ مضى عام وأشهر على قرار المقاطعة، ومازالت المواقع الجامدة في إدارة الخيارات السياسية هي الحاكمة. مع كل هذا لا بأس بوضع خطوط عريضة لإنجاح هذا الخيار، لأن تداعي القرار على مستوى النخب لا على مستوى الشارع ليس دليل فشله، وإنما دليل تداعي الواقع ككل، ما يعني أن خيار المشاركة هو الآخر سيكون محكوما بهذا التداعي، لعدم وجود الرؤية.
أولا: يجب أن يلغي المقاطعون من قاموسهم وأذهانهم أن قرار المقاطعة يعني التصادم مع السلطة، كما يجب أن تلغي الجهات الرسمية من قاموسها هذا المصطلح، بل يجب أن تكون التوصية على التواصل وطرح المبادرات البينية، وتحريك العلاقات الثنائية في كل المجالات ليسهل تكوين مناخ إيجابي في القضية الأم (القضية الدستورية) فهذا يعطي للمعارضة نفسا مفتوحا غير مقبوض في معالجة الملف الدستوري، ويعطيها فسحة في الحركة، ويحقق الأمن السياسي حتى من خارج اللعبة، والمهم من كل هذا كيف يدار الخطاب السياسي السلمي بحكمة، وكيف توجه الرسائل السياسية بدقة إلى الحكم، مع الاحتفاظ بالثوابت الدستورية لأنها مفتاح التفاوض والأمن السياسي معا، وباب واسع للدخول في التجربة من أوسع أبوابها.
ثانيا: يجب إعادة تنظيم المؤسسات السياسية بحيث تكون قادرة على تشكيل أطر تنظيمية أوسع، تتحرك على مختلف الملفات السياسية، وتوجه الجماهير عبر خطاب مقنن وموجه ومحدد في دائرة المطلب فحسب، يعيد للجماهير الأمل بتحقيق شيء، وللقيادة الالتفاف المطلوب، والعمل على «توازع» القوة بين أعلى الهرم وقاعه، وعدم حصر الملفات السياسية وقوة الحضور والخطاب في يد رموز بعينها، وإنما إعطاء الثقة في كوادر منظمة تكون قادرة على حمل الملفات، والابتعاد عن الترهل والتسيب التنظيمي الذي يفقد أي قرار حيويته وحضوره في الساحة، وإنما تشكيل أكبر قدر ممكن من القناعة بالخيار السياسي الحالي، لأن ضيق أصحابه به يعد أول بوادر فشله، ورحابة صدرهم في إنجاحه يعني أول بوادر تحقيقه وإنجازه.
ثالثا: يجب التأكيد على وحدة الخطاب السياسي إزاء القضايا المصيرية، وجدولة أولويات الساحة ليكون بالإمكان التوجيه المركز باتجاه إنجاح الخيارات جميعها، أما إذا اختلفت الخطابات السياسية، وخرج كل خطاب بأولوية يرى أنها محور اهتمامه وتحركه، أو أن الأولويات تناقضت إلى درجة التباين والاختلاف والتناحر أيضا، فهذا سيشتت كل الأجندة السياسية، ولن نكون قادرين على إنجاز شيء منها، وبخصوص المطلب الدستوري، فلا يوجد عاقل لا يرضى بتحقيق إنجاز في هذا الملف، فلماذا تختلف الرؤى بشأنه، وتحاول إسقاطه كخيار مشروع مع كونه يخدم خيارات الجميع الجزئية والأساسية، وقفة تأمل فقط.
ختاما: تحية محبة وإجلال وإكبار إلى الشيخ عبدالأمير الجمري، فقد وحد خيارات الأمة من زنزانته الضيقة، وكان الكثيرون يحسبون أنه لا يحسن صنعا، أما ونحن نعيش أيام العيد الوطني المجيد، فتحية أخرى إلى البحرين كل البحرين قيادة وشعبا، وما أجملها حين تمتزج التضحية بأعياد الوطن، ليهتف الجميع «كاسك يا وطن»
العدد 465 - الأحد 14 ديسمبر 2003م الموافق 19 شوال 1424هـ