هل يوجد تغيير نوعي في الخطاب السياسي لحزب الله (اللبناني)؟ وإذا وجدناه، ما الأسباب التي أدّت إلى هذه النقلة النوعية، وجعلتنا نلفت النظر إليها؟ مع معرفة تبلغ اليقين، أن التغيير صفة من صفات الفعل السياسي، وعلامة على حضوره، وشهادة له بالفاعليّة، والحيويّة والتجدد، وهي كذلك، دليل على إرتباط السياسة، كبقية المعاملات الإنسانية، بشروط إنتاجها وظروفها المكانية الزمانية، وعلاقتها الجدلية بحركة الأفعال المزامنة لها والمرتبطة بها والمؤثرة فيها كما المتأثرة بها على السواء.
ولا ننتظر أن يظل الخطاب السياسي راكدا، وإلا أصابه ما أصاب مياه بحيرة راكدة، فيها تحدث الحياة عن مجراها، كما تفعل الأنهار، وكذلك لجة البحار، وقال القدماء، لا يمكننا السباحة في مياه النهر مرتين لقد غيرت كثير من الدول والأحلاف السياسيّة، والتكتلات الاقتصادية والاجتماعية، والأحزاب والتنظيمات والنقابات، جميع مؤسسات الاجتماع السياسي المعاصر، خطابها، أو عدّلت بطريقة إفصاحه بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول وقد شهد الناس المتغيرات كوقائع في السياسة الدولية وكمذاهب في حركة الأفكار وانتقالها، ولذلك لا يبدو مثيرا للدهشة أن يعدّل حزب الله خطابه السياسي قليلا، لأن ما جرى في هذا العالم، يستلزم إعادة النظر بكثير من ثوابته، ولا نذهب للقول ان التعديل في الخطاب، قد أدركه هذا المستوى من التغيير، حتى نضعه في حركة المتغيرات الجارفة لدى حركات سياسية إقليمية ودولية، لكنه يجب الالتفات إليه، ووضعه في سياقه، ولا يلزم إدارة الظهر له، واعتباره حدثا ثانويا، ليس بذي أهمية أو فائدة.
إن وضعه في نصابه من القول السياسي العام هو الميزان الذي نزن به الأفكار فلا نبخسها حقها، ولا نحملها ما لا تطيق حمله أو احتماله.
لقد ظهرت بوادر هذا التغيير في الخطاب السياسي؛ في سلسلة من الخطب والمحاضرات خلال شهر رمضان المبارك، وكانت من الدقة والتنسيق، ما جعلها تبدو مجموعة من الأنغام المتناسقة في مقطوعة موسيقية واحدة. وفي هذه الخطب والمحاضرات والحوارات خيط رابط جامع يكشف عن النقلة الجديدة، ويضعها في المكان الذي ستتطور معه لاحقا، لتنكشف الرؤية، وتجعل الناظر قادرا على متابعة هذه المتغيرات.
وإذا كانت الأوضاع السياسية الدولية، بعد 11 سبتمبر هي التي حملت الخطاب السياسي للقيام بالنقلة المتفقة مع متغيرات الأوضاع الدولية الجديدة، فإن ما جرى في العراق؛ أو أن الظروف العراقية الجديدة، هي التي حرّكت النقلة النوعية في الخطاب السياسي لحزب الله، وجعلته يدخل مقاييس جديدة على مفاهيم كانت متحققة بصفة القوة في المرحلة السابقة، حملتها حوادث العراق وظروفه للانتقال إلى مرحلة الفعل. ان الحدث العراقي، بكل تفاعلاته المحلية والإقليمية والدولية، كان المحرك الذي دفع بالجدل السياسي داخل الحزب وفي حاضنته الدينية والثقافية، إلى طرح الأسئلة عن مشكلات كانت في مراحل سابقة، كامنة في عالم الصمت، وجاءت حوادث العراق وتفاعلاتها لتدفع بها إلى عالم النطق، وليس حزب الله، هو القوة الوحيدة التي تأثرت بهذه المتغيرات، بل لعله كان الأكثر حذرا في النقلة المشار إليها لكن وقائع الحياة السياسيّة في العالم الإسلامي دفعته إلى طرح الأسئلة. إن مدار الأسئلة الكبرى أن تنطلق من حركة الواقع والحياة، إلى مدار النص واشتغال العقل الإنساني على استنطاقه.
- ما علامات ودوافع النقلة النوعية في خطاب حزب الله السياسي؟
- إن حفاظ خطاب على ثوابته السياسية، باعتبار السياسة الشرعية تطبيق خلاق في أرض الواقع للنص المقدس، وقد تتعددت فيه التأويلات، مسألة ثابتة لكنها قابلة للتحوّل، في المواضع التي يجب أن يدركها قانون التحوّل، وهذه هي التي جلبت انتباهنا ومفادها ما يأتي:
- لقد نأى الخطاب السياسي والإعلامي لحزب الله بنفسه، عن الجدل المزدهر في الأدبيات السياسية العربية، عن الإسلامي السياسي وكيفية تمظهره في الحركات الأصولية الإسلامية السلفية، وكان حزب الله يكتفي، بإشارات مضمرة حينا وصريحة أحيانا عن اختلافه التام مع هذه الأصولية السلفية، من المذهب الفقهي إلى السياسة الشرعية وتطبيقاتها، وكانت أدبيات السياسة العربية ووسائل إعلامها تكشف عن هذا التمايز والتباين بين حزب الله، كحركة مقاومة إسلامية وحركة فكرية إسلامية قائلة بولاية الفقيه على المذهب الشيعي الإمامي، وبين حركات أصولية سلفية، ممثلة بتيارات معتدلة ومتطرفة، لكن التيار المقصود منها في هذا المبحث، هو التيار التكفيري، الذي يستسهل تكفير الآخرين، وجعل دم المسلم وعرضه وماله مباحا له لاعتبارات لسنا في معرض مناقشتها لكنها تمظهرت في الحياة السياسة في أفغانستان والجزائر ولبنان وحوادث بيروت والضنية وعين الحلوة، وغيرها بشكل صريح.
كان حزب الله يبني بصمت واقتدار، مقاومته للعدو الصهيوني ويقدّم نموذجه الإسلامي المغاير، أو المختلف، أو الآخر، أو الوجه الثاني، ولا يعيد اهتمامه، لمجادلة السلفيين القول، أو المشاركة في الحملة السياسية والإعلامية على آرائهم وأفكارهم أو الوقوف في مواضع الدفاع عنهم، لقد اكتفى باعتبار الممارسة السياسية، كفعل عملي أو حكمة عملية، هي الدليل على الفارق والمائز في النظر إلى تجربتين من تجارب الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة، وإلى جانب ذلك، عمد حزب الله إلى تعميق الصلات مع الحركات الإسلامية الجهاديّة الأخرى كما هو الحال في فلسطين، وفتح آفاق الحوار معها وجعل من وسائل إعلامه، منبرا لهذه الحركات ومن منتدياته ومؤتمراته وإصداراته محلا لخطابها الفكري والسياسي. ولم تكشف هذه العلاقة عن جدلٍ ما عن مخاطر السلفية المعاصرة.
جاءت حرب العراق، وما سبقها في أفغانستان وما يمكن أن يلحق بها في بقية مناطق العالم الإسلامي، لتدفع حزب الله للحديث بصوت عالٍ أو التفكير بصوت عالٍ عن أخطاء وأخطار هذه التكفيرية المعاصرة، ونجد في خطاب الحزب السياسي حولها، ملاحظة في غاية الأهمية، قوامها أن خطر هذه التكفيرية لم يعد مقتصرا على موقفها السلبي من المسلمين الشيعة بل أن خطرها يعم جميع المذاهب الإسلامية الأخرى، بما فيها المذاهب التي أنتجتها، وقدمت لها الرعاية حتى أصبحت طليقة اليدين، فارتدت على أصولها وتنكرت لغيرها من المسلمين.
هذه النقلة النوعية في الخطاب السياسي لحزب الله دليل عافية صريحة في الحركة السياسية، الإسلامية المعاصرة، لأن ما يصيب حزب الله من حرج في توجيه النقد لهذه الحركات، لأسباب معروفة لا ينال من حركات إسلامية أخرى إلا إذا كانت لا تريد أن تكشف عن حقيقة موقفها، ولعل الحوادث في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، تحتاج إلى شجاعة معنوية، نكون فيها قادرين على قراءة المتغيرات وعلى توجيه النقد الصريح إلى حركات فكريّة وسياسات من نوع تنظيم القاعدة وإلى رسم التمايزات بين الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة، ولا نخاف في ذلك ما تجلبه هذه النظرة النقديّة من اللعب على وتر الفرق المذهبية، إن الإسلام بوحدته أقوى من الفرق والملل والنحل، والمذاهب والمراتب، ولنا في كتاب الله وسيرة رسوله (ص)، كل الهداية والإرشاد. إن النقلة النوعية في توجيه نقد معلن من قبل حزب الله لأفكار وممارسات حركات أصولية تكفيرية، وكذلك من قبل حركة حماس التي انتقدت تفجيرات الرياض والآراء النقدية الشجاعة لبعض العلماء المسلمين في مصر والمغرب العربي ومنطقة الخليج، تكشف أن حزب الله يحسن قراءة المتغيرات الداخلية، وإنه يملك شجاعة القول، كما يملك شجاعة الفعل السياسي في ساحة الصراع مع العدو
العدد 464 - السبت 13 ديسمبر 2003م الموافق 18 شوال 1424هـ