يتركّز الاهتمام في سلسلة المقالات الأخيرة على شخصيات ذائعة الصيت في مجال السلام والتسامح؛ شخصيات عُرفت بمواقفها وكتاباتها وآرائها؛ شخصيّات أثّرت في الرأي العام وكان لها دور في توجيهه نحو ترسيخ ثقافة التسامح والتعايش والحوار.
غير أنّ شخصية اليوم قد لا يكون لها من الكتب ما يُضاهي بعض الشخصيات التي مرّت بنا سابقاً، وقد لا يكون له من الفتاوى ما تهتزّ له المنابر والقلوب والعقول. لكن، لهذه الشخصية من التأثير المباشر في المواقف السياسية وحقن الدماء وفضّ النزاعات بالحوار والتفاوض ما لم يحظ به، ربما، غيره من قبل. نعم هو مبعوث الأمم المتحدة عضو لجنة «الحكماء» الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي.
لا شكّ أنّ منظمة الأمم المتحدة وميثاقها قد نشآ كثمرة معاناة حربين عالميتين وظمأ بشريّ لإرساء منظومة عالمية تسعى بفعالية إلى تحقيق السلام العالمي، أو على الأقل إلى المعالجة السلمية للنزاعات. ولتحقيق غاياتها تلك، تستعين المنظمة بدبلوماسيّين محنّكين للتدخل السلميّ ورعاية المفاوضات بين الأطراف المتنازعة في بؤر التوتر.
ولقد كان الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي ولا يزال واحداً من أبرز الأسماء العالمية التي عملت في هذا المجال، ووضع بصماته في حلّ النزاعات سلمياً حيثما حلّ على امتداد مسيرته الدبلوماسية مع الأمم المتحدة. والإبراهيميّ من مواليد الجزائر العام 1934، وقد بدأ رحلته الدبلوماسية مبكراً حيث مثّل جبهة التحرير الوطني في جاكرتا (1954-1961)، أي إبّان الثورة الجزائرية، كما عمل وزيراً للخارجية الجزائرية.
لكن رحلته الحقيقية في مجال فضّ النزاعات سلميّاً بدأت مع جامعة الدول العربية، حين عيّنته مبعوثاً لها إلى لبنان، نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، للمساهمة عبر الحوار والتفاوض السلمي لإنهاء الحرب الأهلية؛ فقصد بيروت وكان من أبرز مهندسي اتفاق الطائف (1991)، كما كان صاحب جولات مكوكيّة بين أطراف محليّة وإقليميّة ودوليّة في إطار مفاوضات أفضت إلى ترتيب البيت اللبناني بعد 17 سنة من الاقتتال والحرب الأهليّة الطاحنة.
وبعد النجاح في لبنان، عيّنته الأمم المتحدة سنة 1994 ممثلاً خاصاً لها في جنوب إفريقيا، حيث ترأّس بعثة المراقبين الدوليين للإشراف على الانتخابات الديمقراطية التي أوصلت نيلسون مانديلا إلى رئاسة البلاد. كما كان الإبراهيمي مبعوثاً للأمم المتحدة إلى هايتي واليمن وزائير في الفترة الممتدة بين عامي 1994- 1996. ثمّ عيّن كبيراً لمبعوثي الأمم المتحدة إلى أفغانستان مرتين: مرةّ قبل حكم طالبان ومرّة بعده، حيث أوكلت له مهمة الإشراف على أنشطة الأمم المتحدة المتعلّقة بالسياسة وحقوق الإنسان والإغاثة وإعادة البناء.
وفي 2004، وبعد اختياره مستشاراً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة مكلّفاً خصوصاً بتفادي النزاعات والعمل على حلها، عُيّن مبعوثاً خاصّاً إلى العراق وساهم في تشكيل حكومة انتقالية بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لإسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين.
ويُشار إلى أن الإبراهيمي واحد من أعضاء ما يسمّى بهيئة «الحكماء» أو «القدماء» التي تأسّست العام 2007 في الأمم المتحدة، وهي مجموعةٌ تضم 11 زعيماً من زعماء العالم يعملون من أجل السلام العالمي وحقوق الإنسان وإيجاد تسوية للنزاعات في العالم، ومن أعضائها الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر والرئيس الفنلندي السابق والحائز على جائزة نوبل للسلام مارتي اهتيساري. وقد ترأّس في 2009 مجموعة خبراء مستقلين لتقديم توصياتٍ حول الأمن.
وبعد أن أعلن تقاعده من العمل الدبلوماسيّ، قبل الإبراهيمي المهمة الأصعب في حياته: مبعوثاً مشتركاً للجامعة العربية والأمم المتحدة إلى سورية العام 2012، بهدف إيجاد حل لسفك الدماء والحرب الأهلية الدائرة، خلفاً للأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان الذي استقال. غير أن الإبراهيمي توجّس خيفةً في بداية تكليفه بهذه المهمة لمّا رأى قادة العالم منقسمين، ودعاهم إلى اتخاذ موقف موحّد حول النزاع في سورية، ولكن دون جدوى. واستقال الإبراهيمي في 31 مايو/ أيار 2014، لشعوره بالإحباط بعد فشل الجهود الدولية في إنهاء الحرب الأهلية المستمرة في سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات، وكان قد هدّد منذ فترة طويلة بالاستقالة، قبل تقديمها، مثلما فعل سلفه كوفي عنان في 2012.
حصل الإبراهيمي العام 2010 على جائزة الحكّام الخاصة لتفادي النزاعات من طرف مؤسّسة شيراك التي أسسها الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك لنشر السلم العالمي؛ إذْ يُعدّ الإبراهيمي دبلوماسياً محنّكاً، ومفاوضاً مناوراً، خلف نظارته الملوّنة تختفي تجاعيد صنعتها عقود من الزمن قضاها في حلحلة بؤر التوتر وصناعة السلام.
إنّ هذه الشخصية لَتدعو إلى الاحترام نظراً لجهودها في إحلال السلام وفضّ النزاعات، ولم يكن لها ذلك لولا إيمانها العميق بإمكانية حلحلة الأمور بلغة الحوار بدل أصوات المدافع والصواريخ. وسوف يكتب له التاريخ في لبنان والعراق وجنوب إفريقيا وغيرها من دول العالم، كم من نفسٍ بشرية كتبت لها الحياة بفضل جهوده لإحلال السلام، وكم من عائلةٍ جمع شملها بعد سنوات من التشرد والحرمان. فلله درّك يا إبراهيمي... قد حقّقت بجهودك الدبلوماسية ما نادى به آلاف المفكرين، وحققت على أرض الواقع ما كان يصبو إليه العظماء.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4637 - الإثنين 18 مايو 2015م الموافق 29 رجب 1436هـ
الأخضر الإبراهيميّ
رحلته الحقيقية في مجال فضّ النزاعات سلميّاً بدأت مع جامعة الدول العربية، حين عيّنته مبعوثاً لها إلى لبنان، نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، للمساهمة عبر الحوار والتفاوض السلمي لإنهاء الحرب الأهلية؛ فقصد بيروت وكان من أبرز مهندسي اتفاق الطائف (1991)، كما كان صاحب جولات مكوكيّة بين أطراف محليّة وإقليميّة ودوليّة في إطار مفاوضات أفضت إلى ترتيب البيت اللبناني بعد 17 سنة من الاقتتال والحرب الأهليّة الطاحنة.
الأخضر الإبراهيميّ
رجل قدّم الكثير في مجال فض النزاعات