التجارب علمتنا أن قرارات الكونغرس الأميركي لا تسقط بالتقادم، وقد جرى الحديث عن مثلث سني، ومنطقة كردية، ودولة شيعية في جنوب العراق، وجميعها تعكس نوايا أميركا، ومن خلفها أوروبا، على تقسيم أرض السواد.
بعد مرور أقل من عشر سنوات على تصويت الكونغرس الأميركي، لقرار غير ملزم بتقسيم العراق لثلاث دول، قدم النائب ماك ثورنبير رئيس اللجنة العسكرية بمجلس الشيوخ الأميركي مشروع قانون يطالب فيه وزيري الدفاع والخارجية الأميركيين بمطالبة حكومة بغداد برئاسة حيدر العبادي بإعطاء السنة والكرد دوراً أكبر في الحكم وبالتحديد في قتال تنظيم «داعش».
كان قرار الكونغرس الأميركي غير الملزم قد جرى تقديمه من قبل جوزيف بايدن النائب بالمجلس آنذاك، ونائب الرئيس الحالي باراك أوباما. وقد جاء تتويجاً للعملية السياسية التي هندس لها السفير الأميركي بول بريمرز، العملية التي شكلت «العراق الجديد» على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات، وغيبت مفهوم المواطنة.
وتزامن ذلك مع تدمير منهجي للدولة الوطنية العراقية، وحل الجيش العراقي، وحملة تنكيل لمعارضي الاحتلال الأميركي للعراق. وأيضاً مع هجمة شعوبية على تاريخ العراق، وتدمير لمرتكزاته الثقافية والتراثية، شملت المتحف العراقي وجامعة بغداد، ودور الكتب وتدمير مؤسسات الدولة. وقد قادت زعامات الميليشيات الطائفية التي قدمت من الخارج مع المحتل، وعلى ظهور دباباته، عملية التدمير بضوء أخضر من قوات الاحتلال.
وفي حينه لم يتردد وزير الدفاع الأميركي السابق، رونالد رامسفيلد، فيما يجري من فوضى وتدمير في العراق، على أنه ممارسة أولية للديمقراطية، لشعب لم يتعود على ممارسة الحرية، واصفاً ما كان يجري بالفوضى الخلاقة. وكان صدور مشروع بايدن الذي عرف بالقرار غير الملزم بتقسيم العراق، قد تزامن مع نشر سلسلة من الكتابات والتقارير لبعض مراكز الأبحاث في الغرب، حول تقسيم العراق، وتدفع بتنفيذه باعتباره الحل العملي المتاح أمام أميركا لضمان مصالحها.
وتزامن ذلك أيضاً، بكشف مجلة القوات المسلحة الأميركية عن هذا المخطط، عندما تحدثت عن «خريطة الدم» التي تحوي خطة تقسيم الوطن العربي وإعادة رسم خارطته بما يحقق قيام دويلات على أسس طائفية وعرقية، في عدد من البلدان العربية. وأشير في حينه من قبل بعض الخبراء الاستراتيجيين إلى أن وضع هذا المخطط موضع التنفيذ قد بدأ فعلياً في فلسطين ولبنان والسودان والصومال. وقد امتد فيما بعد ليشمل ليبيا واليمن وسورية.
لقد تضمن مشروع بايدن خطة تقضي بتقسيم العراق إلى كيانات كردية وشيعية وسنية، تحت ذريعة وضع حد للعنف والحيلولة دون تحول هذا البلد إلى دولة تعمها الفوضى. ورغم أن القرار السابق اعتبر غير ملزم، لكن جل المؤشرات التي شهدها العراق منذ احتلاله تشي بأن عملية تقسيم هذا البلد العريق تجري على قدم وساق.
المشروع الجديد الذي تقدم به النائب ماك ثورنبير رئيس اللجنة العسكرية في مجلس الشيوخ لم يشر علناً إلى موضوع التقسيم، لكنه تقدم عملياً باتجاه تحقيقه. فقد رهن المساعدات العسكرية الأميركية للحكومة العراقية بإشراك السنة والكرد في الحكم. إضافة إلى ذلك اعتبر وقف الدعم المقدم لما يعرف بفصائل الحشد الشعبي شرطاً لتقديم المساعدات الأميركية. وطالب بالإسراع في صياغة تشريع قانون الحرس الوطني.
ورغم أن هذه مطالب منطقية، فإن ما بعدها يؤكد ما يقال بأنها كلمة حق يراد بها باطل. فاللجنة العسكرية في مجلس الشيوخ تهدد بأنه ما لم يتم الاستجابة لطلباتها فإنها سوف تحجب ما تبقى من 60 % من المساعدات عن الحكومة العراقية وستذهب معظمها للكرد والسنة. وذلك يعني افتراض وجود مؤسسات تمثل الأقليات والطوائف، وتتلقى الدعم نيابة عنها.
القانون المقترح يجيز تقديم مساعدات عسكرية لجهات غير حكومية، تحت مسمى «الأقليات» في العراق. ويشير صراحة إلى أن 25 % من المساعدات العسكرية الأميركية ستقدم لهذه الأقليات، لكن تنفيذ الصرف سيتم بالتنسيق مع حكومة بغداد. إلا أنه يعود للمراوغة، وتأكيد نوايا التقسيم، بالإشارة إلى أن 60 % من الـ25 % ستعطى مباشرة إلى السنة والكرد إذا كانت إدارة أوباما لا ترى أن هناك «تقدماً مرضياً» تقوم به حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي لمعالجة إدماج الأقليات وإطلاق سراح بعض السجناء الذين لم توجه إليهم تهم، ومعالجة المظالم السياسية.
ولا شك أن الأمر الخطير في هذا المشروع هو رغبة صناع القرار الأميركي في التعامل مع قوات البيشمركة ومقاتلي العشائر السنية ككيانين منفصلين عن الجيش العراقي، بحيث تستطيع أميركا تقديم الدعم المباشر لهم دون حاجة للرجوع إى اللحكومة العراقية. وذلك ما يهيئ الأرضية لتطبيق مشروع بايدن سيئ الذكر حول تقسيم العراق الذي أشرنا إليه في صدر هذا الحديث.
إنه يوكل إلى قوات البيشمركة وقوات العشائر السنية مهمة الأمن الوطني في مناطقهم. كما أن الحرس الوطني السني، المزمع إنشاؤه، سيكون المعادل لقوات البيشمركة في المناطق الكردية، وللجيش العراقي، في المناطق المتبقية تحت سلطة بغداد، بحيث يتقسم العراق إلى ثلاث دول منفصلة، لا سيطرة لحكومة مركزية عليها.
تصريح السفارة الأميركية في بغداد، بأن قرارات الكونغرس لا تعكس بالضرورة السياسة الخارجية المتبعة حيال الدول، وأن الذي يمثل هذا التوجه هو الرئيس باراك أوباما الذي بإمكانه استخدام حق النقض لإبطال مشروع الكونغرس، لا يقدم كثيراً. وهو يعيد إلى الذاكرة، القول بأن مطالبة الكونغرس بنقل عاصمة الكيان الصهيوني إلى القدس لا يمثل وجهة النظر الأميركية.
التجارب التاريخية لعلاقتنا مع الولايات المتحدة أكدت أن قرارات الكونغرس لا تسقط بالتقادم. وأنها ترصف الأرضية لقرارات مستقبلية حاسمة. والرغبة الأميركية في تقسيم العراق لم تبدأ الآن، بل جرى الحديث عنها منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، كمنطقة رخوة، وأعيد التأكيد على التقسيم بطرق مختلفة منذ العام 1990 واعتبرت مناطق الحظر صورة لعراق المستقبل.
جرى الحديث عن مثلث سني، ومنطقة كردية، ودولة شيعية في جنوب العراق... وجميعها تعكس النوايا الأميركية، ومن خلفها الأوروبية على تقسيم العراق.
رفض تقسيم العراق ليس مجرد شعار تطلقه القوى التي أسهمت في تدميره. والخطوة الأساسية في رفضه تبدأ برفض العملية السياسية التي شيّد النظام الحالي على قواعدها، وتحقيق المصالحة الوطنية، وبناء جيش عراقي قوي، وإلغاء الميليشيات الطائفية، وعودة العراق إلى محيطه العربي، وإلغاء قرارات الاجتثاث، وإعادة الاعتبار للهوية التي صنعت تاريخه. وما لم يتحقق ذلك فلن يكون أمام العراق سوى المزيد من الحرائق والفتن وبراكين الغضب.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4636 - الأحد 17 مايو 2015م الموافق 28 رجب 1436هـ
وماذاذلك ماذا عن جماعة الدوري
عاش قلمك يا دكتور ولكن المثقفين اليوم لتسليح العشائر السنية ليس فقط عرابي الاحتلال بل مع الأسف بقايا البعث من جماعة عزة الدوري الذي بتعبير تسليح العشائر السنية هو تصحيح لبعض أخطاء الادارة الامريكية ارجو ان ارى رأيك في ذلك