يقول جبران خليل جبران: «بين خيال الإنسان وإدراكه مسافة لا يجتازها سوى حنينه». أتذكر هذه الجملة كلما انتهيتُ من عمل ما، أو حققتُ إنجازاً ما، فأتساءل: هل وصلتُ؟ هل هذا ما أردتُه؟ أم أنني مازلتُ أحاول قطع المسافة بين الخيال والإدراك؟ ثم أتذكر قوله: «أودّ الآن لو يتاح لي أن أكمل ذاتي». فأسأل نفسي: مَن أنتَ؟ وكيف لك أن تكمل ذاتك في هذا العالم الغريب، المتغيّر، المتلوّن، المغلّف بالضحكات والضجيج، والمليء بالآلام واليأس في الآن نفسه؟
نحن نعيش في عالم صار الكل يسعى فيه للشهرة، للظهور، ليكون معروفاً وصاحب مكانة في المجتمع، ولو حتى من خلال شاشة هاتف. وقد يسأل سائل: وما العيب في ذلك؟ وأقول: أن تصبح الشهرة هي القيمة العُليا في الحياة.
أعترف لكم أن الظهور الإعلامي يصيبني بالتشتت، بالقلق، بالارتباك الروحي. وكلما قلتُ لنفسي سأتوقف عن كل عمل يدفعني إلى الظهور أكثر، تصلني رسالة يدّعي صاحبها أن كتبي غيّرته للأفضل. ويقول لي آخر إن برنامجي «ما قلّ ودل» شجّعه لإكمال دراسته. وآخر أتاني مرةً في معرض الكتاب وقال إن أحد كتبي ساعده لتحمل جرعات الكيماوي التي كان يأخذها عندما كان يتعالج من السرطان.
أعلمُ أنهم يُبالغون في كلامهم، لكن نفسي الضعيفة توسوس لي حينها بالبقاء تحت الأضواء أكثر، لأعاني ويلات الظهور، ومحاولة التوفيق بين ما أحب وما يحب الناس ويتوقعون. وأخدعُ نفسي بهذه الرسائل حتى لا أشعر بالذنب وأنا أسعى إلى الشهرة، كالآخرين تماماً.
غريبة هي الحياة، يوقِفُني أحدهم في مكان عام طلباً لنصيحة، فأضحك من نفسي، في داخلي، وأقول: «تطلبون نصيحتي وأنا مازلت أشعر أنني ابن سبعة عشر عاماً!» يقولون أنت تقرأ فحدّثنا، فأقول كما قال سقراط: «كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئاً». ربما أخدع نفسي عند قراءة كل رسالة ثناء فأقول: «انْتَظِر عاماً آخر، عام واحد فقط وستفشل وتتوقف عن الظهور». ثم أحنث بقسمي في العام الجديد وأكرّر تُرّهاتٍ مثل «انسحابي من المجتمع خيانة له..»، وأقول إنني لن أحترم نفسي إذا كنتُ أستطيع أن أقدّم شيئاً للناس ثم أحْجَمتُ، وامتنعتُ، واعتكفتُ على ذاتي وانعزلتُ بحياتي.
تُذكرني هذه الملهاة الشخصية بفيلم (Inception) وأشعر أنني أكذب على نفسي في داخل كذبة، في داخل كذبة ثالثة، وأعيش في عالمٍ تتراكم فيه الأوهام الذاتية، والحُلم بيوم أفرغ فيه لنفسي.
يقول توفيق الحكيم: «ألا ينتابك أحياناً هذا الشعور؟ الرغبة في ألا توجّد؟»، وأظنه هو من قال أيضاً ما معناه: «ليتني أكتب فأختفي عن الأنظار، فلا يسألني أحدهم لم كتَبْتَ كذا، وماذا تعني بكذا». فالكاتب يكتب حتى يشعر بالحياة، حتى يصلها بروحه ويبلغ مقامات الحكماء العارفين. الكتابة عند الحكيم ومَن مثله هي القنطرة - أي الجسر - التي تصل بين عقله وقلبه، والتي تعبر عليها الأفكار والمشاعر دون تأخير أو تردد. وليست ورقة اليانصيب التي تدفع بنا إلى عالم الأغنياء والمشاهير.
نريد أن نكون مشهورين لأن الشهرة تعطينا ليس فقط شعوراً بالسلطة، بل أيضاً بالخلود. نريد أن نكون مشهورين لأننا مضطربون، لا يوجد في داخلنا سلام حقيقي، فنستجدي تقدير الناس واهتمامهم وثناءهم، حتى شَتمهم يشعرنا أحياناً بنوع من القيمة. ولهذا فإن التصالح الحقيقي مع الذات هو فقط ما يرتقي بالإنسان إلى الطبقات الوجودية العليا، النقية، التي لا يدركها غالبية البشر. هي مكان ينعدم فيها عنصر المنافسة، فلا نبالي عندما نخسر التحدي وتذوب فينا الرغبة بالانتصار. إنها بُقْعة مقدسة، لا يبلغها إلا من سعى لإدراك الحقيقة لا للتباهي بها. أسألُ نفسي كل يوم: مَن أنت؟ فلا أجد غير كلام جبران يردّ علي من بعيد: «على هذه الشواطئ أمشي أبداً، بين الرمل والزَّبَد. سيذهب المَدّ بآثار قدمي، وستذهبُ الريح بالزّبد.. أما البحر والشاطئ، فيظلان إلى الأبد».
إن ما نقوم به اليوم زَبَد ستذْروه الرياح قريباً ولن يأبه به أحد. والآثار التي ندّعي أننا سنتركها خلفنا هي آثار أقدامٍ على شاطئ البحر، سيبتلعها الموج بعد قليل ويعود الشاطئ أمْلس وكأننا لم نمش عليه يوماً. ولكن، متى يصير أحدنا كالبحر أو الشاطئ ويظل إلى الأبد؟ عندما يتخلّى عن الرغبة ليكون كذلك.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 4634 - الجمعة 15 مايو 2015م الموافق 26 رجب 1436هـ
جميل
روعة كما تعودنا منك أستاذ ياسر
ولا زلت أردد
لا تحرمنا من جديدك ولا تحرمنا من طلتك في ما قل ودل